أغرقت المواقف عن مواصفات الرئيس العتيد المطلوب في بحر من النظريات المتعددة ووضع مسألة إحياء الدولة في مرتبة ثانية. وفشلت المحاولات لإسقاطها على لائحة المرشحين قياساً على حجم التفسيرات المتناقضة لبعض المفاهيم الدستورية والسياسية، ما أدى الى حال من الضياع عَبّر اللبنانيون خلالها عن عجزهم عن تجسيدها بأسماء عَلَم من لائحة المؤهلين للاستحقاق الدستوري. وعليه ما الذي تقود اليه هذه المؤشرات؟
منذ ان فتح باب السباق الى قصر بعبدا في اليوم الأول لمهلة الستين يوماً الفاصلة عن نهاية ولاية الرئيس في الاول من ايلول الماضي، ساد الاعتقاد بصعوبة التزام المجلس النيابي ما أناطه به الدستور من مهمة جليلة لا تعلو عليها اي مهمة أخرى، وخصوصا في الايام العشرة الاخيرة منها وبعد خلو سدة الرئاسة. وهي التي قالت بانتخاب الرئيس قبل القيام بأي عمل آخر الى درجة تطابق فيها الواقع مع كل التكهنات التي أطلقت طوال تلك الفترة وكان ما كتب قد كتب وعلى لبنان ان يعيش أشهراً عدة تخلو فيها سدة الرئاسة من شاغلها ولفترات باتت تفصل بين ولاية رئاسية وأخرى بطريقة لا لبس فيها لم يعرفها اللبنانيون قبل التحولات الاخيرة في لبنان والمنطقة.
وإن كانت التركيبة النيابية التي أفرزتها انتخابات أيار الماضي قد أفضَت الى مثل هذه التوقعات، فقد ثبت ايضاً انّ المجلس النيابي كان وما زال عاجزاً عن إتمام كثير من الاستحقاقات الاخرى، خصوصا تلك التي كانت تقضي بتشكيل حكومة بكل المواصفات الدستورية، فبقيت البلاد لستة أشهر من عمر المجلس الجديد نتيجة المناكفات والمكائد التي نُصبت بين السلطات المتعددة بلا حكومة وتمدّد عمر حكومة تصريف الاعمال الى أن خَلت سدة الرئاسة وبقيت قاصرة عن إثبات نفسها والقيام بالمهمات الكبيرة المطلوبة منها في ظل كَم الأزمات التي عصفت بالبلاد والعباد نتيجة المحطات الكارثية الناجمة من جائحة كورونا وجريمة تفجير مرفأ بيروت وزادت من مخاطرها الازمة المالية والنقدية التي اقتيدت البلاد اليها نتيجة الأخطاء التي تجاوزت الجرائم المرتكبة في قطاعات أخرى.
وكأنه لم يَكف ما نتج عن هذه الازمات وتداعياتها الخطيرة، إنتقل الشلل بعد السلطة التنفيذية وأدواتها من وزارات ومؤسسات عامة وهيئات مستقلة فقدت قدرتها على تقديم أبسط الخدمات اليومية للمواطنين والمقيمين على الأراضي اللبنانية فدخلت الى قلب السلطة التشريعية آخر السلطات التي اعتبرت شرعية ودستورية فشلّتها وتعمّقت الشروخ بين أقطابها وتنازعت الكتل النيابية حتى عجزت عن اتخاذ الخطوات المطلوبة منها على أكثر من مستوى. وبقي استحقاق انتخاب الرئيس من أولى وجوه الفشل الذريع الذي عبّر عنه المجلس النيابي طالما انه لم يتمكن بعد من إعادة تكوين السلطة الاجرائية وتنظيم العلاقات بين السلطات والمؤسسات الدستورية في خطوة تٌحيي الامل بإمكان استعادة الدولة لدورها المفقود واعادة موقع لبنان الى سابق عهده بين الامم ووقف الانزلاق نحو مزيد من الانهيارات التي تهدد كيانه وحاضره ومستقبله على أكثر من صعيد.
وبعد دخول البلاد الشهر السادس من الفراغ الرئاسي ما زال اللبنانيون ومعهم المهتمون من مجموعة الدول المهتمة بلبنان والساعين الى إخراجه من مستنقع الأزمات غارقون في بحر من لوائح المرشحين الرئاسيين على رغم من الدستور الذي فرضَ الآليات الخاصة بأصول وشروط الترشح لأيّ من المناصب المنتخبة من الشعب بدءاً بالمخاتير ورؤساء البلديات وأعضاء المجالس الاختيارية والبلدية الى عضوية مجلس النواب، فإنه لم يقارب موقع رئيس الجمهورية بهذه الخطوة الى درجة يمكن من خلالها ان ينتخب من دون ترشيح والاستحصال على سجل عدلي او اخراج قيد، ولا يحتاج الى فحص لاختبار قدراته اللغوية كما هو مطلوب بالنسبة الى ترشيح المختار.
وبمعزل عن هذه الملاحظات التي لا بد من التذكير بها في كل مناسبة مماثلة، فقد انقسم اللبنانيون على مختلف مستوياتهم ولفترة غير قصيرة على وَقع مجموعة الحلقات انّ الديبلوماسيين المعتمدين في لبنان انغمسوا في المَعمعة عينها. وبقي الوضع على حاله إلى ان أرست بعض المواقف صيغة جديدة تركز على مجموعة المواصفات التي يجب ان يتحلّى بها المرشحون، الى درجة قادت البعض الى سَوق اتهامات بحق البعض منهم وصلت الى حد الاتهام بالعمالة لهذا المحور والدولة او المؤسسة الدولية او تلك، الى ان تجرّأ البعض الى التفضيل بين الدولة واي طرف او قوة داخلية ما جعلَ النقاش يصل الى مرحلة التبَسَت فيها المواصفات وتسببت بانشطار غير متوقع بين اللبنانيين، فباتوا في معسكرات متواجهة وبات من الصعب على أي وسيط ان يتوصّل الى القواسم المشتركة إيذاناً بتوفير المخرج المؤدي إلى البوابة الإجبارية للتعافي والإنقاذ وبكلفة فاقت كل التوقعات من دون ان يهتزّ جفن البعض من المتحكّمين بالاستحقاق من بواباته وآلياته الدستورية والسياسية.
وفي غمرة المنازلات القائمة تفضيلاً بين مرشح وآخر بعد تجاوز مرحلة الأوراق البيض وبروز ترشيح «الثنائي الشيعي» لرئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية تزامناً مع التمسّك بترشيح ميشال معوض طالما انه لم يتوافر آخر ينال صوتاً اضافياً، فجاءت المواصفات التي انغمس فيها اطراف «لقاء باريس الخماسي» وآخرهم ما انتهت إليه مهمة الموفد القطري وزير الدولة في وزارة الخارجية الدكتور محمد بن عبد العزيز الخليفي ونتائجها الفورية الغامضة لِتزيد من حدة المناقشات، خصوصاً انّ أياً منهم قد تبرّأ من أي اسم من المرشحين لتلقي بظلالها على المشهد الانتخابي وتزيد من الحروب النفسية التي يشنّها البعض تأسيسا على سيناريوهات تنسب هذا الموقف او ذاك الى هذه الدولة او تلك. وكأنّ مثل هذه التسريبات التي تحاكي الرغبات والامنيات يمكن ان تقود دولة ما الى تغيير موقفها بين موجة منها واخرى، او يستدرجها الى مواجهة مع اطراف داخلية تفتقد الى كثير مما تستحقه.
على هذه القواعد والمؤشرات المتناقضة ارتفع مستوى التحدي بين القوى الدولية والاقليمية التي توقفت عند المواصفات من دون أسماء المرشحين، فتركت اكثر من التباس يحول دون تنقيتهم وفرزهم. وهو أمر يهدد بتنامي الخلافات الداخلية الى درجة تبتعد فيها اي خطوة ايجابية تطاول الاستحقاق الانتخابي ويخشى معها من عدم التوصّل الى اي تفاهم على من يمكنه قيادة السفينة في المرحلة الخطيرة التي تعيشها المنطقة. والأخطر ان نصل الى مرحلة يتعذّر تجاوزها قبل تقدير التكلفة التي سيدفعها اللبنانيون جميعاً. والغريب أنهم ما زالوا يتلهّون بتفسير المواصفات من دون قدرة على ترجمتها، فيزيدون من مآسي اللبنانيين ليتساووا في الخسارة، ومن لديه نظرية أخرى فليتفضّل لِيتحفنا بها.