الشيعة كجماعة أهلية، هي أحد مكونات لبنان… حزب الله ليس مكوناً لبنانياً، رغم أن عناصره لبنانيون، إلاَّ أنّه ببُنيتِه، وثقافتِه، وخَياراتِه، والتزاماتِه وانخراطِه ضمن المشروع الامبراطوري الإيراني، لا يشبه لبنان ولا يشبه شيعة لبنان، حتى لو نجح بأَسْر ِفضائهم العام لمرحلة ما…
فشعب لبنان يُحِبُ فيروز ويطرب لموسيقى الرحباني، التي ترافق صباحاته وركاوى قهوته، فيما يمنع حزب الله أغاني فيروز في مُجَمّع الحدث في الجامعة اللبنانية، بل يحرّم الغناء كل الغناء ما لم يكن أناشيد دينية أو مدائح بالأئمة والمقاومة، وهو يتحفظ على سماع أغنيات القدس ويُحرّم زهرة المدائن، رغم أنه جزء من فيلق إيراني، يتكنى بالقدس، وهو يُحَرِّم الموسيقى سواء كانت غربية أو شرقية، وقد يتسامح متأففاً ببعض من الموسيقى الكلاسيكية…
لا يقبل حزب الله الدبكة اللبنانية، التي كرّستها أجيالٌ مُتواليةٌ، منذ مئات السنين، في كل قرى لبنان ومنها قرى بعلبك والجنوب، ولا تحاكي «الهوارة» و»الدلعونا» أي نزوع فلكلوري في الذائقة الفنية لعناصر حزب الله، حتى لو كانت أشهر فرقتي رقص شعبيتين لبنانيتين، بقيادة مبدعين شيعة من عبد الحليم كركلا إلى فهد العبدالله، ولا يتقبل أي مسرح غنائي أو أوبريت لبنانية، حتى ولو كان مؤلفوها شعراء شيعة كطلال حيدر وشوقي بزيع وحسن العبدالله وغيرهم، أو كان مطربوها شعراء التزموا بالقضية الوطنية كمارسيل خليفة أو حتى جوليا بطرس، أما المسرح ففي عالم غير عالمه، حتى لو كانت المسرحيات تروي صمود الجنوب وبطولات أهله، وكانت من ريادة رفيق علي أحمد أو روجيه عساف…
منذ ما قبل ولادة حزب الله كان الزجل اللبناني، وكان الشاعر زين شعيب أحد فرسانه إضافة إلى أسعد سعيد وابراهيم شحرور وغيرهم من الشيعة، إلى جانب شعراء لبنانيين من طوائف أخرى، وكانت سهرات القرى وأعراسها ومنتدياتها عامرة بحفلات الزجل وصخب القوالين في كل مناسبة، لكن مع حزب الله وتحت سطوته تراجع هذا الفضاء حتى الغياب، فالحزب الذي تنكر لهؤلاء، يريد أن يقتلع من وجدان الشيعة في لبنان كل جميل ومبدع…
أغنية فيروز الرائعة «أنا يا عصفورة الشجن مثل عينيك بلا وطن» هي من شعر معمم شيعي، خريج النجف الأشرف، واسمه السيد علي بدر الدين وجد مقتولاً في خراج قريته في جنوب لبنان، لا يقبل حزب الله العرس اللبناني التقليدي بكل أشكاله، ويقاطعه حيث يستطيع، وفي أوقات سابقة حاول تخريب أي عرس اعتادت الناس عبر تاريخها على إحيائه… لا يسمح بـ»زغلوطة» الأم لابنها العريس، في يوم فرحه، كما يمنع بدعوى التحريم والمخافة من إيذاء الميت في عتمة قبره، الأمهات والأخوات الثكالى، من البكاء على أحبابهم، ويدعوهم إلى البكاء الحلال فقط على الإمام الحسين…
لا يشبه تدين حزب الله وطقوس عباداته، تدَيُّنَ وطقوس عبادات الشيعة اللبنانيين، منذ ما قبل سبعينات القرن الماضي، فمراسم إحياء ذكرى عاشوراء، كانت قديماً تنتهي في صبيحة اليوم العاشر من محرم، ويتردد المثل الشعبي الشيعي بالنسبة لأيام الحزن على الحسين بالقول: «خلصوا مصرعكم وإجلوا عرايسكم» (أي ينتهي الحزن في ذكرى مصرع الحسين قبل ظهيرة يوم العاشر من محرم وتُقام أفراح وزفة الأعراس انطلاقاً من بعد الظهيرة)، أما طقوس حزب الله فتستمر أربعين يوماً وليست عشرة، وعليه وجب تغيير اسم المناسبة من عاشوراء (عشرة أيام) إلى أربعينية، ولعل ذلك قد لا يكفيه، لأنه رفع شعاره «كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء» بحيث يجعل من تسجيلات قراء العزاء في المجالس الحسينية، مؤونة وزادة صوتية يومية، لكل مُلتزمٍ في حزب الله، سواءَ كان في سيارته أو عمله أو أمكنة تسليته، وعلى مدار الأيام من كامل السنة…
زمن حزب الله لطم مستمر، ونحيب لا ينقطع، فهل يشبه هكذا زمن، الزمن اللبناني!
قياساً لمفاهيم حزب الله التي يحاول جعلها عقيدة الشيعة الجديدة، نستنتج أنَّ أجدادَنا وجَداتَنا قد ماتوا ميتة جاهلية، لأنهم لم يعرفوا المذهب الجعفري الجديد التي تُشكّل ولاية الفقيه ركيزته ومحوره!!
نعم هذا الحزب، لا يشبه شيعة لبنان ولا طريقة عيشهم التي يتشاركون بها مع باقي المكونات، ويدعو عناصره لعدم الشراء من أي حانوت لا يلتزم بتعليماته وتحريماته.
لا يطبق حزب الله القانون اللبناني الوضعي لحل النزاعات في مناطق سطوته، وللقيام بالتسويات والتحكيم بين المتنازعين وإجراء المصالحات في ما بينهم، بل يلجأ الى تطبيق الشريعة الإسلامية حتى في خلافات الإيجارات أو تعويض الضحايا في حوادث السيارات!
والحقيقة أن أكبر ممانعة لسيطرة الحزب هي طريقة عيش اللبنانيين التي تكونَت منذ تَكوُّن لبنان الحديث..
لا يقبل حزب الله سباحة الفتيات في البحر والاختلاط بالرجال ويتحفظ على الانخراط في عالم الأزياء والموضة والتبرج، ويحصر استعمالها من قبل الزوجات لأزواجهن فقط داخل بيوتهن، وعلى الرغم من اشتراكه في تقييد لباس المرأة مع مذاهب إسلامية أخرى، فإن المرأة خارج بيتها بعرفه، زي أسود تلبس شادوراً، من رأسها حتى قدميها، فهل هذا شكل المرأة اللبنانية منذ مائة سنة وحتى تاريخه، امرأة حزب الله أيضاً في الخارج الاجتماعي لا تشبه المرأة اللبنانية، ولا تشبه أمهاتنا وجداتنا الشيعة منهن أو من غيرهن..
قد يقول قائل إن هذه عقيدة دينية تدخل في حرية المعتقد والضمير، ولا بأس من التساكن معها، وهو أمر يمكن أن يكون متاحاً، لولا أن حاملي هذه الخيارات، ينتسبون لحزب سياسي يسعى لبناء سلطته على كامل شعب لبنان، ويمتلك ترسانة عسكرية لم يتوانَّ عن استعمالها في منعطفات سياسية متعددة.
فالأحزاب كيانات عابرة وليست مكونات ثابتة، لو كان كل حزب حاز شعبية في طائفته أو شارعه أصبح مكوناً للوطن، لكانت «النجادة» مكوناً للبنان، ولكان «حزب الكتائب» مكوناً للبنان، ولكان «التيار العوني» مكوناً للبنان وهو الآن على شفير نهايته، ولكانت «حركة المرابطون» مكوناً للبنان، ولكانت «الحركة الوطنية» مكوناً للبنان، وكل هؤلاء زالوا أو تهمشوا وبقي لبنان، فالعونية مرت علينا وهي في طريقها للانكماش، وستمر الخمينية في لبنان وتزول، كما زالت غيرها من طفرات سياسية لأن احتساب المتحول ثابتاً هو وهم لا يعول عليه، وحزب الله متحول غير ثابت.
حتى ولو نال أي حزب تمثيل جماعة ما، ولو كانت عملية انتخابه لا تشوبها أي شائبة من شوائب قانون الانتخاب والديموقراطية البرلمانية، من مثل ممارسة العنف اللفظي أو الفعلي، أو التلويح باستعمال القوة، بقصد الترهيب والإخضاع، أو استعمال المال السياسي، وإقامة هيكليات زبائنية موسمية أو دائمة، أو استناده إلى دعم دولة أجنبية، أو استغلال الدين والمقدس وإيمان العامة لتحويلهما إلى أصوات اقتراع لكتل شعبية صماء، واعتبار الاقتراع لصالح الحزب تكليفاً دينياً وأمراً إلهياً، حتى لو نال تمثيله النيابي من دون أي شائبة مما سبق، فهو أمر موقت ولولاية منقطعة، تنتهي بانقضاء مهلتها.
الترداد المتكرر أن حزب الله مكوِّن لبناني لا يستند لأي دليل، وهو محاولة لتأبيد الموقت السياسي الظرفي، وجعله معطى اجتماعياً تاريخياً وثابتاً، هذا الهراء يردده العونيون بكل أصنافهم، ووزير الخارجية عبدالله بو حبيب كان آخرهم : لـ»حزب اللّه» امتداد عسكري إقليمي لا يستخدمه في لبنان، ولا نستطيع تقديم رأسه للسعودية»!
نعم، هذا نموذج من كلام وزير خارجية لبنان في زمن النفاق والتفاهة. النفاق بالادعاء أن حزب الله لا يستعمل قوته في الداخل لفرض خياراته السياسية والثقافية، بعد مرور أيام على اقتحام عين الرمانة، وفي وقت يستعمله أيضاً لتعميم ثقافته ونمط عيشه اللذين أظهرتهما سابقاً، وأما التفاهة فتتوضح حين يضيف ويقر أمام نفسه والعرب والعالم بدور « الحزب وسلاحه وبـ»استخدامه إقليمياً»، أي ضدّ العرب.
وهل تبقى صورة لدولة محترمة يقول فيها وزير خارجيتها: إنّ الحزب مكوّن لبناني لا نستطيع منعه من الاعتداء عليكِم ولا سلطة لنا عليه!؟