سجينة أخرى في مخفر الغبيري بتهمة… الأمومة. القضاء الذكوري، بفرعيه الشرعي والمدني، أخذ «كسرةً»، وبات يستسهل سجن نساء، جريمتهن أنهن أردن أن يكنّ أكثر أمّهات، لا مجرد ولّادات لا وصاية لهن على من يلدن!
في تشرين الثاني 2016، سُجنت فاطمة علي حمزة في مخفر الغبيري، يومين، لرفضها تنفيذ حكمٍ «شرعي» قضى بتسليم ابنها لوالده. كانت تهمتها أنها أم رفضت التخلي عن ابنها، فقررت الدولة تأديبها دفاعاً عن «شرع الطائفة»، ومن ورائه عن نظام ذكوري بأكمله. اليوم، تقبع خديجة نايف، وهي أمّ لثلاث بنات، في مخفر الغبيري نفسه، بتهمة احتجاز أوراق بناتها لمنع طليقها من السفر بهنّ خارج البلاد. هذه المرة أيضاً، استنفرت الدولة لتأديب الأم، لأنها، بحكم القانون القاصر، «لا وصاية لها على من تلدهنّ». هي فقط «ولّادة». أما الوصاية والوكالة الحصريتان فللرجل، بغضّ النظر عن أهليته.
عندما أوقفت فاطمة حمزة كانت سابقة. أما، وقد تكرّر المشهد، فلم يعد الأمر كذلك. ثمة نهج يبدأ في محاكم الشرع ولا ينتهي عند حدود محاكم القضاء المدني. أول من أمس، سقطت «السابقة» مع احتجاز نايف، بناءً على إشارة المحامي العام الإستئنافي في جبل لبنان فادي ملكون، استناداً إلى شكوى تقدّم بها طليقها، بتهمة «امتناعها عن تسليمه جوازات سفر الفتيات» اللواتي يحملن الجنسية الهولندية إلى جانب اللبنانية. وفي التفاصيل، أن نايف تبلغت أول من أمس الحضور إلى مخفر المريجة للإدلاء بإفادتها، بناءً على شكوى طليقها، غير أن الإفادة استحالت توقيفاً، بعد إشارة القضاء، ريثما تسلم جوازات السفر. 7 ساعاتٍ في مخفر المريجة، نقلت بعدها إلى مخفر الغبيري حيث تبيت الآن.
تؤكد المحامية منار زعيتر أن «لا وجود لنص قانوني واضح وصريح يقول بحبسها، كونها لم تسرق جوازات السفر من طليقها، بل كانت موجودة معها أصلاً». ولكن، «حتى لو كان هناك نص، فإن الامر لا يستدعي توقيف أم في النظارة»، مشيرة الى أنه في ظل عدم وجود قانون، «فإن التدابير تتيح للقاضي هامش حرية يمكن من خلاله أن يستنسب قراره». وفي مثل هذه الحالات، يفترض «أن يكون القاضي أكثر تحسّساً بقضايا النساء، ما دام لا يخالف القانون. وهذا يتطلب إرادة وجرأة لتطويع النص والإجراءات نحو فهم جديد لمفهوم العدالة». أكثر من ذلك، تشدد زعيتر على أن «أنصع دليل على عدم قانونية الاجراء الذي اتخذه القاضي، هو المادة 674 من قانون العقوبات، التي تنص حرفياً على إعفاء «مرتكبي الجرائم المنصوص عليها في الفصول السابقة من العقاب إذا أقدموا عليها إضراراً بالأصول أو الفروع أو الأب أو الأم أو الابن المتبنّى أو الزوج غير المفترق عن زوجه قانوناً». وعليه، ثمة «ابتزاز واضح في ما اتخذه القاضي، في محاولة لتجريدها من سلاحها الوحيد»، تضيف زعيتر.
لا وجود لنص قانوني واضح بحبس الأم والقاضي خالف المادة 674 من قانون العقوبات
بعيداً عن أحكام القضاء التي تضع الأم في مكانة «الضلع القاصر»، تختصر حكاية نايف قصصاً كثيرة على هذه الدرب الطويلة. قبل 5 أشهرٍ، طلّقت خديجة من زوجها، بسبب «عدم الاستقرار، إذ إن عمل الوالد غير ثابت، وهو في حالة انتقال دائم من بلد إلى آخر، وكانت أختي وبناتها مجبرات على اللحاق به»، يقول شقيقها حسين. وكان من آثار ذلك «أن توقفت الفتاتان الكبيرتان عن متابعة تحصيلهما العلمي منذ أربع سنوات». لم تحتمل نايف هذا الوضع، فـ«قررت بعد 14 عاماً من الزواج أن تعود إلى لبنان، على أن يواصل زوجها العمل على سجيّته، ويوفر الحاجات الأساسية للبنات». لكن، لم تنجح المفاوضات، وسرعان ما انتهى الأمر بالطلاق. يومها، تنازلت الأم عن حضانة طفلتها الصغيرة التي تبلغ من العمر 5 سنوات «تحت الضغط»، بحسب شقيقها، وكانت هذه «غلطة عمرها»، إذ بات بإمكان الوالد أن يأخذهنّ، كون الفتاتين الكبيرتين تبلغان من العمر 12 و13 عاماً، وهي أعوام تتخطى «صلاحية حضانة» الأم التي تتوقف عند سن السابعة. مع ذلك، تركهن الأب في عهدة الأم حتى عاد للمطالبة بهن قبل شهرٍ ونصف شهر، وتمكن من أخذهن وقطع أي وسيلة تواصل مع والدتهن. عندها، لم تجد نايف سوى جوازات سفر بناتها تستخدمها كورقةٍ للضغط على طليقها للسماح لها برؤيتهن، إلا أن الأخير «لم يحمله رأسه، وقرّر رفع الدعوى»، التي أوصلت نايف إلى السجن.
يصرّ والد البنات على عدم التنازل عن الشكوى بحقّ طليقته، التي تصرّ هي الأخرى على الاحتفاظ «بهذه الورقة، ولو بقيت مسجونة»، يقول شقيقها، إذ إنه لا خيارات متاحة أمامها في ظل «القضاء الفحل». جلّ ما تريده التفاوض مع الوالد لـ«البقاء على صلة ببناتها، إن من خلال السماح لها برؤيتهن أو في أحسن الأحوال الإتصال بهن عبر الهاتف أو تطبيق واتس آب أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي». هذا أقصى «أمنيات» خديجة التي يحاول شقيقها إيصالها، غير أن الوالد يرفض ذلك. وقد حاولت «الأخبار» أن تقف على رأيه، إلا أنه لم يجب على الاتصالات.