هل تنبّأ الكاتب البريطاني بي. دي. جيمس بالمستقبل، في روايته The Children of Men (1992)، حين رسم مشهداً قاتماً لأوروبا وبريطانيا، تغرق في العنف والاقتتال الداخلي تحت ضغط موجات من ملايين اللاجئين «السمر»؟
الرواية التي تحوّلت إلى فيلم سينمائي في العام 2006، من إنتاج أميركي ــ بريطاني للمخرج ألفونسو كورون وبطولة البريطاني كليف أوين بعنوان Children of Men، أي «أبناء الرجال» أو «أبناء البشر»، تحاكي أحداثها واقع اليوم في الدول الأوروبية الغربية، كبريطانيا وفرنسا وألمانيا، حين استقبلت مئات آلاف اللاجئين الآتين من بقع الصراع التي غذّتها حكوماتها في الشرق، طمعاً بثرواتها وخيراتها، من أفغانستان إلى العراق وسوريا وشمال أفريقيا.
«متى سيحدث في أوروبا الغربية كما حدث في نيوزيلندا؟»، لا يتمهّل مصدر دبلوماسي أوروبي في الإجابة عن سؤال «الأخبار»، فيردّ سريعاً: قريباً جدّاً! فالنقاش الداخلي بلغ أوجه في الأشهر الماضية، لا سيما داخل الدولة العميقة في فرنسا وألمانيا على وجه الخصوص، حول أخطار اللجوء على البيئة الاجتماعية الغربية بسبب تصاعد نزعات اليمين وجنوح حركات يمينية لاستخدام العنف والإرهاب ضد اللاجئين بذريعة الإرهاب الذي مارسه تنظيما «داعش» و«القاعدة» وتفاقم «رهاب اللاجئين» عند الشريحة «البيضاء».
وبدل أن تسعى تلك الدول إلى إنقاذ نفسها من تكرار مشهد الملايين المحمّلين بالمراكب الصغيرة في المتوسط التائقين للوصول إلى الشواطئ الباردة، تجد تلك الدول نفسها اليوم جزءاً من مشروع أميركي تدميري للشرق بأكمله، من أفغانستان إلى شمال أفريقيا مجدداً، تظهر أبرز معالمه في الضغط الاقتصادي الهائل الذي يمارس ضد سوريا وإيران وحتى لبنان. ولا يخفي أكثر من مصدر أمني ودبلوماسي أوروبي، استطلعت «الأخبار» آراءهم، مدى القلق الذي ينتاب دوائر الأمن والاستخبارات في الدول الأوروبية الغربية، من النتائج الكارثية للحصار الاقتصادي على سوريا، والذي من الممكن أن يفجّر موجات من اللاجئين الجدد، الآتين من سوريا ولبنان نحو أوروبا. أحد المصادر الأوروبية، يذهب بعيداً في توصيف ما يجري: الأميركيون هم المستفيد الوحيد من تفاقم الصراعات وموجات اللجوء، يفككون المشروع الأوروبي ويسعّرون حركات اليمين لمواجهة روسيا، ويضعون الدول الأوروبية تحت جناحهم!
في ألمانيا مثلاً، يجد فريق في الدولة أن الحلّ لتخفيف الأزمة هو في تخفيف العقوبات عن الشعب السوري وإعادة التواصل مع سوريا لإعادة حوالى 200 ألف نازح إلى بيوتهم، والإبقاء على نحو 600 ألف يمكن لسوق العمل الألمانية استيعابهم لما يملكون من حرف ومهن في القطاعات الانتاجية والعملية كافة. إلّا أن فريق المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل، المنسجم تماماً مع الإرادة الأميركية، يرفض أي بحث في إعادة التواصل مع الحكومة السورية، ويبرّر أمام منتقديه في الداخل أن الشارع الألماني قد تمت تعبئته ضد الرئيس السوري بشار الأسد، وليس سهلاً أن يتمّ التراجع عن هذه البروباغندا التي عملت على شيطنة الأسد، وأن الأمر يحتاج إلى سنوات عديدة، وأن أي تراجع الآن ستكون نتائجه كارثية على شعبية المستشارة.
وفي فرنسا، شهد الشهر الأول من العام الحالي صدور التقرير السنوي عن أجهزة الاستخبارات الفرنسية، والذي دعا بشكل واضح إلى ضرورة فتح علاقات مباشرة مع الأسد وتخفيف العقوبات، لتشجيع السوريين على البقاء في بلادهم وعدم تكرار موجات اللجوء. وكما ميركل، يقف فريق الرئيس إيمانويل ماكرون بالمرصاد، مكرراً معزوفات سلفيه هولاند وساركوزي. وتقول مصادر دبلوماسية روسية اطّلعت على النقاشات في قمّة باريس بين الرؤساء فلاديمير بوتين ورجب أردوغان وميركل وماكرون، إن الروس توصّلوا مع الفرنسيين والألمان إلى صيغة مقبولة للمساهمة في دعم إعادة إعمار مناطق في سوريا بهدف إعادة اللاجئين ودعم الاقتصاد السوري، خوفاً من انهيار شامل، إلّا أن الأوروبيين تراجعوا بعد أيام عن التزاماتهم تحت الضغوط الأميركية.
أما البريطانيون، فعلى الرغم من غرقهم في أزمة داخلية بسبب «بريكسيت»، فإن كل ما يفكر فيه هؤلاء هو البحث عن مصير العقوبات المفروضة على سوريا وكيفية تعاطي بريطانيا معها بعد خروجهم من الاتحاد الأوروبي. ولأجل ذلك يوفدون رجال الاستخبارات إلى دول محيط سوريا لاستطلاع مدى تأثير العقوبات عليها، للبحث فيما إذا كانت تلك العقوبات كافية أم يحتاجون إلى إصدار عقوبات بريطانية منفصلة عن العقوبات الأوروبية.
للمرّة الأولى، يُحذّر مسؤول لبناني الدول الأوروبية، بهذا الوضوح، من أن لبنان «لا يمكنه أن يستمر طويلاً في سدّ منافذ تسرب اللاجئين السوريين الى أوروبا». وللعلم، فإن تحذير وزير الخارجية جبران باسيل، خلال لقائه وزيري الخارجية اليوناني جورجيوس كاتروجاس والقبرصي نيكوس كريستودليدس قبل أيام، وإن كان عفوياً، إلّا أنه يعكس أسئلة عميقة باتت تتردّد على ألسن مسؤولين لبنانيين وسوريين عن المخاطر المقبلة، مع اشتداد الحصار على سوريا وإمعان «المجتمع الدولي» في مخطط منع النازحين السوريين من العودة إلى بلادهم، وتوطينهم في لبنان والأردن، وتصاعد احتمالات الحرب في المنطقة.
هل يعتقد الأوروبيون بأن الأجهزة الأمنية السورية واللبنانية ستمارس مهام خفر السواحل في حال تفاقم أزماتها الاقتصادية الداخلية وتمنع اللاجئين المحتملين، لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، من الوصول الى أوروبا؟ ومن سيمنع اللاجئين الأفارقة من الغوص في البحر مع تفاقم الصراعات في شمال أفريقيا؟
ربّما بات على أوروبا «العنيدة» في تنفيذ مصالح أميركا، أن تفكّر في مصالحها، أو أن تستعد لملايين «الجنوبيين» الهاربين من الفقر والجوع والحروب!