IMLebanon

“التوجّه نحو الشرق”: نقاش هادئ

 

ثمة كتب ومؤلفات تحجز لنفسها توصيف “الكتب المرجعية” إذ إنها تتضمن مقاربات للإشكاليات المعقدة، بكثير من العمق والشمولية وتتصدى لعناوين مثيرة للجدل مثل الهوية والحضارة الإنسانية والتركيب الاجتماعي، والأنظمة السياسية والثقافة وسواها من القضايا الهامة. من تلك الكتب مؤلفات الباحث الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد الذي ألّف، من جملة ما ألّفه، كتاباً بعنوان: “الاستشراق” سنة 1978 لخّص فيه ما وصفه بأنه مجموعة مفاهيم الغرب حيال الشرق وطبيعة العلاقة الشائكة بينهما.

 

ولا شك أن ما ورد في هذا الكتاب لا يمت بصلة إلى تلك الموجة المتصاعدة في لبنان منذ سنواتٍ قليلة، تحت مسميات مختلفة كالثقافة المشرقية أو إنتماء لبنان المشرقي ودور بعض مكوناته في هذا “المشرق”، وسوى ذلك من العناوين وقد أصبح بعضها في صلب النظريات السياسية التي تتبناها أو تروّج لها بعض الأطراف السياسية.

 

طبعاً، ليس المقصود إطلاقاً من هذا النقد التطرق إلى الشق الديني أو ما قد تراه بعض الطوائف إمتداداً لحقبة زمنية معينة، فهذا أمر ممكن مناقشته خارج إطار هذه المساحة الصحافية. إلا أنه لا يمكن لأي متابع ألا يتساءل عن سبب إصرار البعض على اعتماد هذه “المقاربة المشرقية”، وإدارة الظهر لإنتماء لبنان العربي وهو العنوان الذي كان موضع خلاف حاد بين اللبنانيين على مدى سنوات، إلى أن حُسم في “إتفاق الطائف” الذي جزم كذلك بـ “نهائية” لبنان وصيغة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين.

 

يُضاف إلى هذا النقاش المعقد الطرح المستجد المسمّى: “التوجّه نحو الشرق” وذلك على ضوء إنهيار علاقات لبنان العربية والدولية بشكلٍ غير مسبوق. ويتبين بوضوح من خلال تفكيك خطابات أصحاب هذا الطرح أن “الشرق” المقصود هو سوريا وإيران ومن ورائهما الصين.

 

إذا كانت العلاقات السياسية بين الدول الثلاث قائمة بشكلٍ أو بآخر إلا أنه من غير المفيد، أقله بالنسبة إلى لبنان، أن تكون في “سلة واحدة”. فدمشق وطهران تخضعان لعقوبات دولية وأميركية والتعامل معهما دونه عقبات سياسية وتنفيذية؛ فيما العلاقات مع الصين مختلفة لأنها دولة كبرى وتتمتع بنفوذ سياسي وإقتصادي دولي هائل، وتمتلك حق النقض في مجلس الأمن الدولي إلى جانب الدول الأخرى الدائمة العضوية فيه. لكنها أيضاً طرف في الصراع المحتدم مع الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا.

 

هذا لا يلغي التفكير بالتعاون الإقتصادي مع الصين إنطلاقاً مما قد يتطابق مع المصلحة الوطنية اللبنانية. لقد سبق للصين أن ساهمت في تطوير وتوسيع مرفأ طرابلس، وإذا كان ثمة إمكانية لتشارك في حل معضلة الكهرباء المزمنة في لبنان، فيمكن دراسة هذا الأمر من مختلف الجوانب واتخاذ القرار المناسب، طبعاً إذا توفرت النوايا لحل هذه المعضلة أساساً.

 

لا يستطيع لبنان، رغم كل كبواته وعثراته الراهنة، أن يتخلى عن دوره التاريخي في أن يكون صلة وصل بين الشرق والغرب، وبأن يحافظ على تعدديته وتنوعه مقابل الآحاديات البائسة التي تزنر المنطقة بأكملها (وفي طليعتها إسرائيل التي تكرس آحاديتها الدينية لاستكمال مشروعها العنصري).

 

ولا يستطيع لبنان أن يعود بعقارب الساعة إلى الوراء مهرولاً نحو دمشق التي صار نظامها تحت المجهر الدولي بعد إقرار قانون “قيصر”، مع كل ما سيتضمنه من إنعكاسات على الإقتصاد السوري وأيضاً على لبنان وإقتصاده المتهالك.

 

المهم ألا يفبرك أصحاب النفوس المريضة سياسياً حبكة تربط بين نظرية “التوجه نحو الشرق” وبين رؤية “لبنان المشرقي” لأنه عندئذٍ سوف “يكتمل النقل بالزعرور!”