لم يتأكّد رسمياً ما إذا كانت اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين إيران والصين، لمدّة 25 عاماً، تنصّ على وجود 5 آلاف جندي صيني على الأراضي الإيرانية. ولكن، كل المؤشرات ترجِّح أنّ ذلك صحيح. وهذا يعني أنّ بكين نجحت في وضع قواتها على تماس مباشر، وفي شكل بالغ التحدّي، مع القوات الأميركية في الخليج العربي والقرن الإفريقي وأفغانستان. فكيف سيكون الردّ الأميركي، وهل تشتعل الجبهة بين الجبارين الدوليين؟
في عامه الـ97، يتبرَّع الأميركي المحنَّك هنري كيسينجر بنصيحة إلى إدارة الرئيس جو بايدن: «سارِعوا إلى معالجة الأزمة مع الصين قبل أن تتنامى. فخيار المواجهة معها لن يكون سهلاً».
طبعاً، بايدن لا يحتاج كثيراً إلى النصائح. فهو مُحنَّك أيضاً في الأزمات الدولية، ولاسيما منها أزمات الشرق الأوسط. ومنذ اليوم الأول لوصوله إلى البيت الأبيض، بدا راغباً في إطفاء الملف الإيراني سريعاً، ولو على مضض، والاتجاه شرقاً للمعالجة الكبرى مع الصين.
لكن اللاعب الإيراني كان يخبّئ الورقة تحت الطاولة. وبعد معاندة مع الكاوبوي الأميركي بالأسلحة الخفيفة، فاجأه بالسلاح الثقيل: توقيع اتفاقية تعاون استراتيجي، سياسي واقتصادي وعسكري، مع الصين، حجمها 400 مليار دولار قابلة للزيادة، على مدى ربع قرن.
إذاً، وفيما يستعدّ بايدن للقفز من طهران إلى بكين، جاء الصينيون إليه وتوغلوا في عمق أزمته مع الإيرانيين، وبات الملفان الإيراني والصيني ملفاً واحداً. وهذا ما أحدث انقلاباً جيوسياسياً على مستوى الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا، وستكون له تداعياته على العالم بأسره.
حتى الآن، لم يُنشر الاتفاق رسمياً. ويتردّد أنّ السريّة مقصودة لزيادة الغموض والقلق عند الأميركيين، وأنّ الاتفاقية التي تمّ توقيعها هي التي تمّ التوصّل إليها بعد زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ لطهران عام 2016، وجرت بلورتها على مدى سنوات، وتداولتها الصحافة العالمية في شكلها شبه النهائي، قبل نحو عامين.
إذاً، لم يعُد الأميركيون قادرين على المضيّ في «ترقيع» الملف الإيراني، وبات عليهم الحسم مع طهران وبكين في آن معاً، إما بتسوية سياسية لا تخلو من تنازلات وخسائر فادحة، وإما بمواجهةٍ غير محسوبة المخاطر. وهذا مغزى تحذير كيسينجر، على الأرجح.
أين يكمن التحدّي الصيني للولايات المتحدة بعد توقيع الاتفاقية مع طهران؟
1- عسكرياً: وهنا الأخطر. فنشرُ قوات صينية رسمية على الأراضي الإيرانية، بتغطية شرعية، سيجعل إيران قاعدة صينية متقدّمة في بقعة محسوبة تقليدياً للأميركيين، من دول الخليج العربي إلى أفغانستان ودول أخرى في الشرق العربي.
وثمة معلومات، عن أنّ إيران، وفقاً للاتفاقية، منحت الصين هامش الحركة عسكرياً في الموانئ وبعض الجُزُر ذات الأهمية الاستراتيجية، وأنّها أجَّرت جزيرة كيش الواقعة على مقربة من جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى بينها وبين دولة الإمارات العربية المتحدة، وعلى بوابة مضيق هرمز. وهذا التأجير هو الذي استثار قوى إيرانية في وقت سابق، ودفعها إلى الاعتراض على الاتفاقية.
والسيطرة على هرمز تتكامل مع رغبة الصين في السيطرة على مضيق باب المندب من خلال القاعدة العسكرية التي أقامتها في خليج تاجورة في جيبوتي، حيث تمّت السيطرة على المرفأ بكامله. وقد تمّ بناء القاعدة خلال العامين 2015 و2017، وهي قريبة من قواعد يقيمها الأميركيون وحلفاؤهم الغربيون والأتراك والإماراتيون هناك.
وهذا التحدّي سيفرض على الأميركيين أن يحسموا الخيار: فإما أن يبرموا صفقة يتقايضون فيها مع الصين في مناطق التشابك في العالم، وهذا يعني تقديم التنازلات ربما في الشرق الأوسط أو آسيا أو إفريقيا. وإما أن يذهبوا نحو مواجهة لا تبدو أكلافها مقبولة.
2- اقتصادياً: ستحصل الصين على امتيازات هائلة، وأبرزها النفط والغاز الإيرانيين اللذين تحتاج إليهما، بسعر أدنى بـ30% من سعر السوق. وهي لن تدفع الثمن بالدولار الأميركي. وستتولّى إدارة جزء واسع من قطاعات الصناعة والنقل البري والبحري، ما يسهِّل للصينيين إكمال مشروعهم العملاق، «طريق الحرير».
وفي المقابل، ستفقد واشنطن ورقة ضغط بالغة الأهمية على إيران، هي الحصار الاقتصادي. فالإيرانيون، بتداخل اقتصادهم عضوياً مع الاقتصاد الصيني، سينفِّسون الضغط الأميركي ليصبح عديم الجدوى، أو ضعيف الجدوى على الأقل. وهنا أيضاً، سيكون على الأميركيين، وحلفائهم الغربيين الذين لطالما ساعدوا طهران على تنفيس الضغوط، أن يقرّروا طريقة التعاطي مع هذا المأزق.
3- سياسياً، ستصبح إيران عملياً كوكباً يدور في الفلك الصيني، ولربع قرن مقبل. وسيفرض ذلك على قوى أخرى معنية أن تحسم خيارها، ولا سيما منها دول الخليج العربي، تركيا، روسيا، وطبعاً إسرائيل. وثمة مَن يعتقد أنّ روسيا متوافقة مع الحليفين الصيني والإيراني على تقاسم الأدوار، لكنها ليست مستعدة لخسارة أي موقع لمصلحة أحد.
سيكون على الولايات المتحدة أن تحمي مناطق نفوذها، وخصوصاً في الخليج العربي وإسرائيل، التي أقامت هي أيضاً شبكة علاقات قوية مع الصين، وبرنامج استثمارات في البنى التحتية والمواصلات البرية والبحرية بأكثر من 25 مليار دولار. وسيكون على واشنطن أن تمنح الصين أولويتها. فالاتفاق الإيراني – الصيني أطاح الجدل العقيم حول الاتفاق النووي.
واستطراداً، سيكون حيوياً للولايات المتحدة أن تحسم خياراتها: هل تعتمد طريق الانسحاب من الشرق الأوسط، لمصلحة «التحالف الشرقي»؟ أم تعتمد مع حلفائها طريق الهجوم، وتواجه إيران والصين في الخليج والعراق وسوريا ولبنان وسواها؟ وكيف؟ وهل النهج الذي يعتمده الأميركيون اليوم في لبنان ما زال صالحاً للتطبيق أو هو يستدعي المراجعة؟
هل النهج الذي يعتمده الأميركيون اليوم في لبنان ما زال صالحاً للتطبيق أو هو يستدعي المراجعة؟