كان متوقعاً انتقال الصين من لغة هادئة حول مصدر فيروس «كورونا» في بدايات الوباء، إلى لغة نظريات المؤامرة في الأيام الماضية. متطلبات الصراع الدولي لا سيما مع واشنطن تستلزم هذه اللغة الأخيرة.
قبلاً، حين حاولت إيران إدراج الوباء في حقل المؤامرات الدولية، وقدمته في تصريحات مسؤوليها وبعض الإعلام، بأنه عدوان بيولوجي أميركي على خصوم واشنطن، كان من بين من تصدى لها أصوات صينية، منها مقابلة للسفير الصيني لدى السعودية، نفى فيها نظريات العدوان.
لكنْ للدعاية السياسية أحكام!
تجتهد الصين لمغادرة الصورة الأولى التي التقطها الخارج عنها في بدايات الأزمة؛ إخفاء المعلومات والتكتم عن عدد الإصابات والوفيات، والتعمية على الحقائق العلمية المتوفرة حول الفيروس وخصائصه، كمثل قابليته للانتقال بين البشر وليس فقط بينهم وبين الحيوانات، ساهمت جميعها في إحداث زلزال «كورونا» الذي ضرب العالم كله.
جسّد هذه الصورة الطبيب الصيني، لي وينليانغ، أول من دقَّ ناقوس الخطر من تفشي فيروس «كورونا» في مستشفى ووهان في الصين، وأحد أول ضحاياه وأكثرهم شهرة.
قبل وفاته هددته الشرطة ليصمت، وأرغمته السلطات على توقيع مذكرة حكومية، أدانته بنشر معلومات كاذبة وبتصرفات غير قانونية، واعتُقل لأيام بسبب التهمة هذه. إنها صورة التنين المرتبك، عديم المسؤولية، وغير الجدير بموقع الصين في العالم وفي اقتصاده وأمنه الصحي.
أما الصورة الثانية، فهي صورة الرئيس الصيني شي جينبينغ زائراً مدينة ووهان، بؤرة تفشي فيروس «كورونا»، بحسب الإعلام الرسمي، ثم إعلان المدينة خالية من الفيروس. من الداخل انتقلت الصين إلى الخارج في معركة بروباغاندا بالغة الشراسة، عبر «هجمة» المساعدات، لا سيما لإيطاليا المنكوبة، والمتروكة من الاتحاد الأوروبي. إنها صورة القوة والإنجاز والمبادرة ونجاح النموذج.
لا يحتمل جينبينغ ملامح الضعف. لكن بخلاف غيره من «الرجال الأقوياء» الذين يحكمون العالم بسطوة الهيبة والشعبوية، لا يحتمل الاختباء. اختبأ الروسي فلاديمير بوتين حتى ظن العالم أن روسيا خالية من الوباء. حاد التركي رجب طيب إردوغان عن طريق الفيروس، وألقى العبء على الحكومة في بلاد جعل من شخصه فيها كل شيء. حاول الإنجليزي بوريس جونسون أن يؤسس لنفسه مساراً خاصاً، ثم أدرك خطأه وتراجع. «البريكست» عن مسار المواجهة المعولم وشبه الموحد مع الفيروس، خيار غير متوفر هنا. البرازيلي جايير بولسونارو لم تنفعه عنجهية السخرية من الوباء لتجنب التعامل مع الحقائق. صار هو مصدراً للسخرية بعد إصابة وزير الإعلام لديه بالفيروس.
أما من واشنطن، الخصم الأول للصين، فقد بدت البلاد أكثر المرات بعداً عما يتوقعه العالم من «قائد العالم الحر». انتشرت كالنار في الهشيم التصريحات الفاضحة للرئيس دونالد ترمب التي استخف فيها بالفيروس وبالضجة المثارة حوله، وبقدرته على إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه.
بين الأقوياء لا يحتمل الرئيس الصيني سلوكاً مماثلاً. لا يحتمل الفشل في المواجهة، ولا يحتمل الخفة في تحمل المسؤوليات، ولو على حساب كل المعايير والقيم الليبرالية المتعارف عليها.
على العكس، وجد الفرصة سانحة ليؤكد أن موقع الصين المتقدم والراسخ في العالم، في اقتصاده، وأمنه، وتكنولوجياته، هو تماماً بسبب عدم تبنيه للمعايير والقيم الليبرالية المتعارف عليها.
السلوك الأميركي شكَّل الرافعة الأهم للبروباغاندا الصينية. فقبلة الليبرالية في العالم، قزمت الفيروس إلى حدود استخدامه في الصراعات الحزبية الداخلية، قبل أن تنتبه لفداحة الكارثة.
الخريف الأوروبي الذي فضح تجاعيد القارة العجوز، كشف هشاشتها أمام المرض، وبطء مؤسساتها أمام زلزال الفيروس، وضعف هويتها الجامعة في اللحظات المصيرية. كل ذلك رفد النظرية الصينية الدائمة، أن الرفاهة خارج الديمقراطية ممكنة ما لم تكن أفضل. فبين الدول العشر الأُول على لائحة المنكوبين بـ«كورونا»، خمس دول من مجموع الدول السبع الصناعية الكبرى. وعدد الإصابات في إحداها – إيطاليا – يفوق بعشر مرات عدد الإصابات في الصين، باحتسابه على أساس التعداد السكاني.
المبالغة الصينية في الاستعراض، تعكس الاستثمار في هذه الفرصة المتاحة لتسديد طعنة نجلاء للغرب القاري برمته. وهي – أيضاً – نتيجة موضوعية لخوف بكين من قصص النجاح الآسيوية، في كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان.
يعلم الرئيس الصيني أنه يخوض معركة مصيرية غير مضمونة النتائج. فعالم ما بعد «كورونا» لن يكون كما قبله في أي من التفاصيل الرئيسية التي تعني بلاده.
لن يكون بوسع الصين أن تشتري ثقة العالم مجدداً ببضعة أقنعة مرسلة إلى إيطاليا، أو ببعثات طبية هنا وهناك.
كارثة «كورونا» سددت ضربة قاصمة لمركزية الصين في بنية التجارة والصناعة في العالم، ولتمركز خطوط الإمداد حول مصانعها، بعد 19 عاماً من انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية.
بين أزمة «سارس» 2002- 2003، وأزمة «كورونا» 2019- 2020، ارتفعت مساهمة الصين في الناتج العالمي، من حوالي 4 في المائة إلى ما بين 16 في المائة و20 في المائة، وهو نتاج يمتد من صناعة السيارات والهواتف إلى المنتجات الطبية والأزياء!
لن تستمر الصناعة والتجارة رهينتين لاستقرار الصين. هذا ملمح مؤكد من ملامح صين ما بعد «كورونا».
الأمر الثاني يتعلق بمستوى مسؤولية الصين كلاعب دولي. سبق للصين أن أغلقت أسواق الاتجار بالحيوانات البرية، حتى المهدد منها بالانقراض، ثم أعيد فتحها، من دون الحدود الدنيا من إجراءات السلامة. من مثل هذه الأسواق خرج «سارس»، ويخرج اليوم «كورونا»، وبمثل انتقاله السابق وأسرع وأوسع ينتقل اليوم.
كالأفراد، تخطئ الدول؛ لكن أخطاء الصين كوارث كونية. والسؤال هنا: من سيثق بالصين بعد «كورونا»؟ وكيف تسترد الصين سمعتها أمام العالم؟ بالتأكيد ليس الجواب: بإرسال الكمامات إلى إيطاليا.