أيام قليلة وتطفئ حكومة حسّان دياب شمعتها الثانية، فيصير لها شهران “في القصر”. الحكومة تلقّفت كرة نار الانهيار الاقتصادي – المالي الكفيلة بإحراق كل من يحملها حتى لو كان “جبلاً”. هبطت اهتمامات اللبنانيين وطموحاتهم إلى القعر، لدرجة الاكتفاء بالسؤال عن لقمة عيشهم و”المئة دولار” التي كانت المصارف “تتكارم” في تقديمها أسبوعياً.
لم يعد البحث في متاهة الأموال المنهوبة يستهويهم، ولا المليارات المهدورة في قطاع الكهرباء تثير غضبهم أو حشريتهم، ولا حتى مزاريب الهدر في المرفأ أو المطار وغيرهما من المعابر تهزّ وجدانهم. هكذا لا يزال وزير الطاقة ريمون غجر محمياً في الظل، على خلاف أسلافه الذين تعاقبوا على الكرسي الحارقة من جهة، والتي ستفجّر “ذهباً أسود” من جهة أخرى.
لطالما كان وزراء الطاقة موقع استهداف لا يرحم، نظراً لأنّ خطة الكهرباء لم تجد طريقها إلى التنفيذ، ولأنّ حجج العرقلة لم تقنع الرأي العام. ولكن ريمون غجر لا يزال ضمن مهلة السماح… بانتظار أن يفتح صندوق “مفاجآت” العروض التي سيأتي بها من كبريات الشركات العالمية المهتمة بالعمل في السوق اللبنانية.
حتى الآن، نجح الرجل في ترك انطباع ايجابي عنه حين قصد لجنة الأشغال العامة في مجلس النواب، حيث قدم شرحاً صريحاً وواضحاً حول التوجه للنقاش مع شركات عالمية أبدت رغبتها في المشاركة في بناء معامل انتاج الطاقة. أكثر من نائب شارك في الجلسة، لا يوافق خيارات الفريق السياسي الداعم للوزير، أبدى اعجابه بسلوك الوزير الجديد مقارنة بسلوك أسلافه.
ولكن ذلك لم يمنع راصدي أداء غجر من تسجيل ملاحظات عديدة وقع في فخها مذ جلوسه على كرسي الطاقة: كأن يطلق مثلاً مسار تعيين مجلس ادارة مؤسسة كهرباء لبنان بدلاً من المسارعة إلى رفع سلّة ترشيحات إلى مجلس الوزراء لبتّها سريعاً، أو أن يشكل مجلساً استشارياً في الوزارة مؤلفاً من اصحاب الخبرة، هدفه دراسة المواضيع التي تحال اليه في مجالات الوزارة المختلفة وإبداء الرأي فيها، كأن الوزارة لم تشبّع دراسات وخططاً… أو أن تسارع الوزيرة السابقة ندى البستاني إلى التعليق على فضيحة الفيول المضروب فتقول في تغريدة لها “مشكلة شحنات الفيول غير المطابق هي موضوع متابعة من قبلنا ولن نسكت عنها؛ وقد أكدت التقارير مسؤولية الجهات المورّدة عن رداءة الفيول وتسببه بأضرار كبيرة. ان المتابعة الحثيثة من قبل وزارة الطاقة يجب أن تستمر بهدف اتخاذ كافة الاجراءات القانونية العقابية والرادعة بحق الجهات المورّدة كافة”… وكأنها نسيت أنّها لم تعد الوزيرة المعنية!
على كلّ، يدرك رئيس الحكومة حسان دياب أنه حتى لو أضاء أصابعه العشرة، فلن يجد من يصفّق له اذا لم يتمكن من حلّ معضلة الكهرباء لوقف الهدر المقدر سنوياً بحوالى ملياريّ دولار. وهو لذلك يتابع عن كثب وبالتفاصيل كل حيثيات هذا الملف مع الوزير المعني لخشيته من قطب مخفية قد تقضي على كل جهود الحكومة.
قبل أن يرفع غجر طلبه إلى مجلس الوزراء طالباً تفويضه “الشروع بإجراء مباحثات مع كبار المصنّعين العالميين لوحدات إنتاج الكهرباء، لدراسة إمكانية القيام بتأمين التمويل اللازم وإنشاء معامل انتاج الكهرباء وتأمين الحلول الموقتة، من خلال مفاوضات مباشرة واتفاقيات تعقد بين دولة ودولة وتحت سقف المادة 52 من الدستور”، كانت الخطوط الساخنة بين السراي الحكومي ووزارة الطاقة من جهة، وكبريات الشركات العاملة في هذا المجال، قد انطلقت بمشاركة سفراء دول هذه الشركات.
النموذج المصري في انشاء معامل الطاقة هو الحاضر على الطاولة، لأنّ العودة إلى روزنامة خطة الكهرباء المقرّة في الحكومة السابقة قد تحتاج إلى سنتين للتنفيذ. ولذا سيصار إلى اللجوء إلى قاعدة التفاوض من دولة إلى دولة لتأمين العرض الأفضل للبنان في ضوء الظروف المالية السيئة التي تصيب الخزينة اللبنانية.
طبعاً، كان تعبير “تفويض” كفيلاً بإثارة سيل من الشكوك في أذهان كثر، أبرزهم رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي سارع إلى سؤال رئاسة الحكومة لاستيضاحها حول صلاحية التفويض المطلوب وماهية حدوده… إلى جانب تساؤلات أخرى طالت عدد المعامل المطلوب بناؤها وما اذا كان معمل سلعاتا لا يزال ضمن الخطة المرسومة. لوهلة، بدا أنّه صار لملف الكهرباء صاعق قد ينفجر في أي لحظة مهدداً التضامن الحكومي.
بالفعل، ما هي إلا أيام قليلة حتى عاد غجر إلى مجلس الوزراء عارضاً نتائج المحادثات التي أجراها مع 4 شركات عالمية متخصصة ببناء معامل لإنتاج الكهرباء وهي Siemens الألمانية وgeneral electric الأميركية وMitsubishi اليابانية وإينسالدو الايطالية.
واشار غجر إلى “نتائج مشجعة مع كل من سيمنز وجنرال الكتريك رغم اعتبارهما أن تخلف لبنان عن سداد ديونه قد أثر بشكل أو بآخر على مسار استثماراتهما وأن الأمر محور بحث مع السلطات المعنية”.
وعلى هذا الأساس سيواصل وزير الطاقة النقاش مع الشركات الأربع في محاولة لتوقيع مذكرة تفاهم مع اكبر عدد من الشركات تتم على أساسها المفاوضات المتعلقة بالعقود والشروط المالية لإنشاء المعامل، وذلك عن طريق تمويل من الدولة التي تنتمي إليها كل شركة.
على خطّ مواز، تمّ تعطيل الالتباسات التي كانت عالقة في ذهن رئيس مجلس النواب، سواء لجهة التفويض المعطى لوزير الطاقة، من خلال التأكيد أنّه لا يتيح للوزير المعني التفاوض عن الدولة اللبنانية، وانما النقاش مع الشركات لا أكثر، وأنّ المرحلة الأولى من الخطة تشمل بناء معملين فقط، في دير عمار والزهراني. أما معمل سلعاتا، الذي صار بمثابة “العقدة في المنشار”، فسيتم تأجيله إلى مرحلة ثانية، كما يؤكد المطلعون على موقف رئيس الحكومة أنّ دياب يولي هذا الملف أهمية استثنائية ويتابعه بكل دقائقه من خلال التواصل الدائم مع الوزير المعني. لا بل أكثر من ذلك، فقد شارك دياب في جلسات عروض presentation قُدمت من جانب بعض الشركات المتحمسة في السراي الحكومي.
أما جديده، فهو انضمام الصينيين إلى لائحة المهتمين بشدّة لخوض غمار هذه الصناعة في لبنان وفق عروض مغرية جداً، كما يؤكد هؤلاء، حيث ينتظر أن يعود وزير الطاقة إلى مجلس الوزراء متأبطاً جدول مقارنة بالعروض التي تقدمت بها الشركات الراغبة، يشرح الأفضلية تقنياً ومالياً، ليتمكن مجلس الوزراء من اتخاذ قراره النهائي بهذا الشأن.