في ضوء النزاع بين المحاور في الشرق الأوسط وفوضى النظام الدولي واستمرار الولايات المتحدة في انتهاج سياسة إثارة النزاعات والحروب للحفاظ على أحادية السيطرة والسطوة على العالم، يبرز دور جمهورية الصين الشعبية الدافع في اتجاه الإستقرار الإقليمي والدولي، بناءً على سياسة «بناء السلام»، وإنهاء النزاعات عبر الحوار والشراكة والتعاون الاقتصادي وتبادل المصالح، كونها القوة العظمى الوحيدة التي لم تنخرط في الحروب الراهنة مباشرة، على رغم من الأزمة المصطنعة أميركياً في مسألة «تايوان»، فيما الولايات المتحدة ومعها فرنسا وبريطانيا أصبحت طرفاً في كثير من الحروب والنزاعات في العالم، وخصوصاً في أوكرانيا والشرق الأوسط.
في العام 2013 قدّم الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة «الحزام والطريق»، وكانت الرحلة الأولى له إلـى الشرق الأوسـط في العام 2016، ثم أصدرت بكين أول ورقة سياسية عربية في العام نفسه بعنوان «وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية».
هذه المحطات، رسمت ملامح الإستراتيجية الصينية الخارجية الجديدة، والتي نقلت «الإمبراطورية» من سياسة الحياد والنأي بالنفس عن قضايا النزاع الى الإنخراط في قضايا العالم وأزماته، من بوابة تغليب الوسائل الديبلوماسية لحلّ النزاعات وإطفاء الحروب للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين وإحلال منطق تعزيز العلاقات السياسية والتعاون والشراكة الاقتصادية، لتوفير مصالح كافة الأطراف، محل الحروب وتنازع وتضارب المصالح، إذ إنّ السلام الإقليمي والسلم والأمن الدوليين يُسهّلان إنشاء المشاريع الإستثمارية الضخمة بين الدول، لربط القارات وإنعاش الاقتصادات.
كيف ترجمت الصين الشعبية الإستراتيجية الجديدة في أزمات الشرق الأوسط وعلى الساحة الدولية في عالم مُعقّد ومتشابك المصالح؟
منذ عملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر، إنقسم العالم على ضفاف متعددة، تموضعت الصين الشعبية ضدّ الحرب على غزة، ودعت الأطراف كافة إلى التفاوض على وقف إطلاق النار و»حل الدولتين» الذي يساهم إلى حدٍ كبير في إرساء الإستقرار في الشرق الأوسط، واستخدمت بكين إلى جانب موسكو حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي مرّات عدة ضدّ مشاريع أميركية لوقف الحرب بالشروط الإسرائيلية على حساب قطاع غزة والحقوق الفلسطينية، وكان آخرها المقترح الأميركي الأخير الذي حاول الأميركيون إمراره من دون تضمينه وقف إطلاق نار دائماً، لكن «الفيتو» المزدوج الصيني ـ الروسي أجبر الأميركيين على تعديل المقترح، ولحظ مطالب المقاومة الفلسطينية.
يُبدي ديبلوماسيون صينيون اهتماماً بحرب غزة انطلاقاً من أهمية الشرق الأوسط بالنسبة اليهم، لذلك تبذل جهوداً ديبلوماسية لهذه الغاية، ودخلت وسيطاً بين حركتي «فتح» و»حماس»، وأرسلت جمهورية الصين الشعبية وفق المعلومات مبعوثاً إلى الضفة الغربية لإجراء محادثات تمهّد لموقف فلسطيني موحّد بعد وقف إطلاق النار في غزة وإطلاق مفاوضات محتملة حول «حل الدولتين» وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة. إلّا أنّ الوسطية التي تتسمّ بها السياسة الصينية في هذا الملف، لا تُلغي امتعاضها من الممارسات الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين التي خرقت كل المواثيق والقوانين الدولية والإنسانية.. للصين علاقات عادية مع «إسرائيل» تركّز على الصعيدين الاقتصادي والثقافي، علماً أنّ المسؤولين الإسرائيليين عبّروا عن امتعاضهم من الموقف الصيني في الحرب على غزة.
وتنظر بكين بعين القلق حيال تهديد أمن الملاحة البحرية والتجارة الدولية في البحر الأحمر والبحر المتوسط، وهما أهم ممرين يشكّلان «طريق الحرير» ويربطان آسيا بكل من أوروبا وأفريقيا، خصوصاً أنّ الاقتصاد الصيني قائم على التصدير، حيث أنّ الصادرات الصينية تُشكّل 40 في المئة من التجارة الدولية التي تمرّ عبر البحر الأحمر الى أوروبا وأفريقيا.
ولا شك أنّ الولايات المتحدة الأميركية هي المنافس الأول للصين على الساحة الدولية، وانتصار «إسرائيل» في حرب غزة سيُثبّت ركائزها في المنطقة، بعد تصفية القضية الفلسطينية وإحياء مسار التطبيع و»صفقة القرن»، ثم تستدير نحو لبنان وسوريا وإيران، وبالتالي تعزيز قوة الكيان في المنطقة سيعزز القوة الأميركية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما قد يشكّل تهديداً للشراكة الصينية مع دول أفريقيا.
وعلى رغم الإرتياح الصيني إلى تحرير القسم الأكبر من الجغرافيا السورية من التنظيمات المتطرّفة، والحفاظ على وحدة سوريا شريك الصين، إلّا أنّها تُبدي خشية من إطالة أمد الحل السياسي، وبالتالي استمرار أزمة النزوح وتنامي الإرهاب في المناطق الحدودية والإنهيار الاقتصادي، كأوراق تستخدمها الولايات المتحدة والدول الأوروبية ضدّ الدولة السورية، وسبق أن أظهرت الشركات الصينية اندفاعة في اتجاه الإستثمار في سوريا ولبنان، لكنها فُرملت بسبب الحصار الاقتصادي وقانون «قيصر» الأميركي، وغياب النظام المصرفي اللبناني.
ماذا تريد الولايات المتحدة من الصين؟
تريد وقف التمدّد الصيني الاقتصادي إلى العالم، وأن تبقى الصين مصنعاً للولايات المتحدة الأميركية، وأن لا يُصرف فائض القوة الاقتصادية في السياسة الدولية، لكي لا تحدث خللاً في موازين القوى العالمية التي تحكم النظام الدولي القائم.
ويصِف الديبلوماسيون الصينيون العلاقة بين واشنطن وبكين بالـ»التنافسية» والنزاع الخفي على رغم من العلاقات الاقتصادية الجيدة، وتُعتبر العلاقة في ظل الإدارة الأميركية الحالية هي الأسوأ منذ عقود، إذ أنّ الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن هو الرئيس الوحيد الذي لم يزُر الصين منذ إقامة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين والولايات المتحدة، باستثناء لقاءين بين بايدن والرئيس الصيني على هامش قمتين دوليتين. وإذ لا تُبدي الصين حماسة لعودة بايدن إلى البيت الأبيض، لكنها لا تفضّل مرشحاً على آخر لسبب أنّ أي رئيس سيحكم أميركا لن يخرج عن سياسة الهيمنة وخلق النزاعات في العالم.
وكونها لا تشارك في أي حرب أو نزاع، وتملك علاقات جيدة مع معظم دول العالم بعكس الولايات المتحدة، دخلت جمهورية الصين الشعبية في وساطة بين روسيا وأوكرانيا للحدّ من التوتر في منطقة القوقاز، لكن المخطط الأميركي أبعد الجهود الصينية لاحتواء الحرب، بما يرتبط بالنزاع الأميركي ـ الأوروبي مع روسيا، خصوصاً أنّ «الناتو» يستخدم الجغرافيا الأوكرانية لتهديد الأمن القومي الروسي. وتدرك بكين أنّ إدخال روسيا في حرب استنزاف طويلة في أوكرانيا لحصار «الإمبراطورية الروسية» خلف الأسوار الروسية، ما يؤدي الى إضعافها وإلهائها في أزماتها الداخلية، من ثم الإستفراد بالصين وإيران.
لا تنافس بين جمهورية الصين الشعبية وروسيا، بل تحالف في الاقتصاد والسياسة والأمن، فكسرت الصين الحصار الأميركي الغربي على الصادرات النفطة والغازية الروسية لحرمانها من العائدات المالية، فزاد الإستيراد الصيني للغاز الروسي بمليارات الدولارات. كذلك كسرت الحدود التي حاولت واشنطن أن ترسمها لها، وسيّلت فائض القوة الاقتصادية في السياسة في إطار المبادئ التي تحدث عنها الرئيس الصيني: «بناء السلام» و»صناعة الاستقرار». ووجّهت ديبلوماسيتها على محورين: تعزيز العلاقات مع الشركاء والإنفتاح على الدول البعيدة جغرافياً، وخصوصاً في القارة الأفريقية، والثاني إطفاء النزاعات والحروب. وهذا ما تجلّى برعاية المصالحة الإيرانية ـ السعودية على سبيل المثال لا الحصر.
وتُعدّ المصالحة الإيرانية – السعودية وإعادة العلاقات السياسية وتعزيز العلاقات الاقتصادية بينهما، إنجازاً للديبلوماسية الصينية، كون علاقة الأخيرة بكل من طهران والرياض ضمان لاستمرار مفاعيل الاتفاق، ويؤكّد الديبلوماسيون الصينيون أنّ هذه العلاقات إلى تحسن مستمر.
ويقلّل الديبلوماسيون من خطر المحاولات الأميركية لإعداد الهند لمنافسة الصين، وكبديل عن القوة الاقتصادية الصينية تكون مطواعة للسياسة الأميركية، ومن خلال إثارة الخلاف والنزاعات بين الصين والهند، حيث تطورت العلاقات بين الدولتين، كما أنّ الممر الهندي الذي أُشيع عن إقامته ليكون بديلاً من «طريق الحرير» غير قابل للتنفيذ سياسياً واقتصادياً وأمنياً.