ليس مبنى «تاتش» سوى محطة في سياق التعامل مع أموال الخلوي بوصفها مالاً سائباً يسهل «السطو» عليه. دَفْعُ 75 مليون دولار من المال العام لشراء مبنى، في عز الأزمة المالية، يصوّره وزير الاتصالات كإنجاز وجب شكره عليه. ولذلك لا يتردد في إصدار بيان يتباهى فيه بتعب الليالي الذي جعله يصل في النهاية إلى تحويل عقد الإيجار إلى عقد شراء. الأغرب أن شقير لا يزال، بعد كل ما أثير بشأن الصفقة، مصرّاً على اعتبار ما فعله إنجازاً. وهنا لا يكون مهماً ما يقوله أحد الوزراء عن أن صاحب المبنى كان يسعى إلى بيعه إلى «تاتش» قبل أن ترسو الصفقة على الإيجار. أعاد الوزير محمد شقير له ما أراد وحبة مسك.
كرم شقير وحرصه على المال العام ليسا بحاجة إلى من يثبتهما. سبق أن بشّر بخفض حصة الشركات التي تقدم خدمات القيمة المضافة إلى 50 في المئة، قبل أن يتبين أن ليس كل الشركات كانت تحصل على أكثر من هذه النسبة، وليس كل الشركات صارت تحصل عليها. الميزان الذي يحمله وزير الاتصالات ليس دقيقاً، لكنه يعوّل عليه لقياس إنجازاته. كثيرون من المتخصصين في القطاع، إضافة إلى شركتي الخلوي، تعبوا وهم يشرحون للوزير أن خدمة الرومينغ التي يريد الترخيص لإحدى الشركات لتقديمها، ستسهم في خفض حصة الدولة من هذه الخدمة، لكنه مع ذلك يصرّ على قراره. حتى عندما حمل إلى مجلس الوزراء اقتراحاً بإلغاء الدقائق الستين المجانية التي تضاف إلى الخطوط اللاحقة الدفع، لم يقتنع بدراسة شركة «ألفا» التي أشارت إلى أن إلغاء الخدمة لن يشكل فارقاً يُذكر في الإيرادات، ولم يتراجع إلا بعدما رفض مجلس الوزراء الاقتراح.
نموذج غريب يقدمه وزير الاتصالات. مَن يراقب عمله يخلص إلى أنه إما لا مثيل لخبرته في القطاع، وبالتالي فإن قراراته تنبع من ثقته بتفوقه في المجال، وإما أنه يعمل وفق أجندة مرسومة سلفاً، مهمتها تسخير المال العام لخدمة مصالح فئوية وحزبية وشخصية، وهو لذلك لا يكترث للملاحظات التقنية أو المالية التي تصله.
آخر إبداعات وزير الاتصالات رغبته في إعادة إحياء غرفة التنصت. هذا لا يعني أن شقير استطاع حل المعضلة التي أدت إلى عدم تشغيل الغرفة منذ إنشائها في العام 2010، والمتمثلة في سعي الأجهزة الأمنية للتهرب من تنفيذ القانون 140 المتعلق بحماية الحق بسرية الاتصالات. بالنسبة إلى الأجهزة، وداعميها من الجهات السياسية، فإن الغرفة تسهم في تكبيل عملها، لأنها ستتطلب عندها ربط التنصت بموافقة هيئة قضائية مستقلة، فيما هي اعتادت التصرف بحرية مع الداتا التي تحصل عليها، من دون حسيب أو رقيب.
شقير سبق أن بحث تحديث غرفة التنصّت مع أحد المرشحين للفوز بالمناقصة
نامت الغرفة لسنوات قبل أن يقرر شقير إيقاظها. هذه فرصة لإجراء صفقة جديدة، قيمتها 15 مليون دولار. المبلغ سيكون مخصصاً لتأهيل الغرفة، أي بمعنى أدق لتحديث البرامج التي تتضمنها، علماً بأن إنشاء الغرفة بأكملها (أجهزة وبرامج)، كلّف 20 مليون دولار (اتخذ القرار بإنشائها في العام 2009، في عهد الوزير جبران باسيل، ودشّنت في العام 2010، في عهد الوزير شربل نحاس، ثم دشّنت مرة أخرى، في العام 2011، في عهد الوزير نقولا صحناوي حين أُعلن عن تسليمها إلى وزارة الداخلية). بحسب مطّلعين على مسار الصفقة، فإن التوصية كانت بدعوة ست شركات إلى استدراج العروض، هي: Atis، Area، IPS، SIO، ISN، وNexa. وهذه الشركات جميعها تعمل في قطاع الحماية والأمن، إلا أن الوزير قرر عدم الأخذ بالتوصية، واكتفى بدعوة شركتين فقط، هما ISN وIPS قبل أن يضيف لاحقاً شركة Atis إلى «لائحة المدعوّين». وإزاء الاعتراضات على حصر المنافسة بشركات محددة، والاتهامات المرتبطة بتعليب نتيجة المناقصة، يبرز اسم خالد حنبلي، صاحب شركة IPS، الذي يصدف أنه كان من بين رجال الأعمال الذين التقاهم شقير أثناء فترة «التدريب» على تسلّم الوزارة. حينها تمحور النقاش حول مشروع غرفة التنصت تحديداً (انظر «الأخبار» في 3 كانون الثاني 2019: «محمد شقير وزير الخصخصة»).
من أين سيؤمن شقير قيمة الصفقة؟ تسارع مصادر معنية للقول: هذا سؤال لا يُسأل لوزير اتصالات. هو ينام على كنز اسمه «ألفا» و«تاتش»، وبقرار منه تُفتح أبوابه. ولذلك، من المحسوم في وزارة الاتصالات أن الشركتين ستتكفلان بتسديد قيمة الصفقة (من المال العام الذي تجبيانه لمصلحة الخزينة). ذلك لا يعني أنهما معنيتان بالمناقصة أو حتى أبلغتا بالسعي إلى إجرائها. فقد درجت العادة، إذا كانت الصفقة ليست متعلقة مباشرة بعمل الشركتين، أن يقتصر إبلاغهما بوجوب الدفع، بعد أن تظهر نتيجة المناقصة. هذا ما يحصل دائماً، وهذا ما حصل، على سبيل المثال، عند إنشاء غرفة مراقبة ترددات الطيف.