من مجرى نهر الدامور وبساتين الموز مروراً بعاصمة الأمراء وصولاً إلى قمم جبل الباروك التي يزيد ارتفاعها عن ألفَي متر، كان الشوف، أحد أكبر أقضية محافظة جبل لبنان الستة، والذي يضمّ 97 بلدة ونحو 72 مجلساً بلدياً منتخباً، على موعد مع الانتخابات البلدية والاختيارية. بمشاركة نحو 196 ألف و892 مواطن مسجّلين على لوائح الشطب، بلغت نسبة المقترعين منهم 50 في المئة، شكّلت معارك الشوف صورةً مصغّرة عن خليط معارك محافظات لبنان. ففي بلدات شوفيّة تَخاصَم «التيار الوطني الحرّ» و»القوات اللبنانية»، وفي أخرى تَترجَم تحالفُهما. في بلدات بلغَ الصراع العائلي أوجَه، وفي قرى بَرزت النزعة الطائفية. وفي بلدات أخرى كانت المقاطعة سيّدة الموقف وفي أخرى تَربَّعت التزكية على العرش، فيما التحقَت «بريح» بعد 50 عاماً بالاستحقاق البلدي.
من «الدامور» بوّابة الشوف، تفوح رائحة أمّ المعارك البلدية الشوفية، حيث اصطفَّ على جسر الدامور مناصِرو رئيس البلدية شارل غفري مرتدينَ قمصاناً حُمراً كُتِب عليها «وحدة الدامور»، في مقابل أنصار المرشّح الياس عمار الذين لبسوا قمصاناً خضراء كُتِب عليها «الدامور هويتي».
منذ الصباح الباكر وقفَ المناصرون بجهوزية تامّة «قبل فتح صناديق الاقتراع» على حدّ تعبيرهم، ليتسابقوا على توزيع اللوائح (18 بلدي و5 اختياري) الخاصة بمرشّحيهم على سيارات المارّة.
الدامور… موج المعارك
على عكس بحر الدامور المتمايل، بدا أبناءُ البلدة كالموج الهائج أمام المبنى البلدي الجديد الذي شكّلَ مركزاً للاقتراع. على طول الطريق المؤدّي إلى المركز، انتشرَ المندوبون المتجوّلون يستميلون الناخبين، شابٌّ يعرض على مسِنّ مساعدتَه في الوصول، صديقتُه تُوزّع القبّعات ضاربةً «عصفورين بحجر واحد»، فهي تقِي المارّة وهجَ الشمس وفي الوقت عينه تُوهمُ مناصري اللائحة المنافِسة بأنّ أصحاب القبّعات حسَموا خيارَهم، واجتذابُهم باتَ «عَـ الفاضي».
حماوة المعركة داخل أقلام الاقتراع لا تقلّ حماوةً عن حال الشارع الداموري، فداخل المراكز لكلّ غرفة رواية أغربُ من الأخرى، تبدأ من مرافقة المندوبين للناخبين والتأكّد مِن هوياتهم وسُلالتهم، ولم يكن ينقص سوى إخضاعهم «لفحص دم»، وهُم لم يوقِفوا تطفّلَهم إلّا بعدما وجَّه لهم أحد الأمنيين ملاحظةً بنبرة حاسمة، «لَوَرا عمِلو معروف».
ففي الغرفة الرقم 5 علا صوتُ إحدى المرشّحات حين طلبَ منها رئيس القلم وضعَ إصبعِها في علبة الحِبر، فانتهرَته معترضةً: «مبارح ساوَيت ضفيري»، فقاطَعتها إحدى المندوبات: «شو ما عندِك جلي بالبيت، بالجَلي بِروح الحِبر».
أمّا في الغرفة الرقم 4 فبَدت الأجواء هادئةً، ولكن للوهلة الأولى يخيَّل إليكَ أنّك تدخل إلى مطعم، نظراً إلى كرَم الضيافة الذي أغدَقه المندوبون على مسؤولي القلم، فتمرّ شابّةٌ متجوّلة لتتأكّد من أنّ القهوة وصَلت بعد الترويقة، وسُرعان ما يُقاطعها رئيس القلم متمنّياً لو يوفَّر له الشاي. أمّا في الغرفة الرقم 2 في الطابق السفلي، فخَرج مواطنٌ في العَقد السابع من عمره وهو يُخاطب نفسَه بعدما اقترَع: «يا عمّي تنيناتُن بعِزّو علينا وتنَيناتُن عنيدين!».
في هذا السياق، التقَينا المرشّح عمار في منزله حيث بدت التجهيزات الموسيقية على أتمّ الاستعداد وكأنّه «مِش ناقص إلّا نتيجة الفوز»، وأعربَ لـ«الجمهورية» عن امتنانه لإقبال الداموريين بكثافة: «الانتشار الداموري كبير ويبلغ عدد المسجّلين على لوائح الشطب 9 آلاف و600، وأتوقّع أن يبلغ عدد المقترعين 5 آلاف صوت، وأيّاً تكن النتيجة سنهنّئ الفائز». ثمّ قصَدنا منزل غفري، إلّا أنّه كان قد غادر ليَقترع.
«القمر» ينتخب
غادرنا الدامور وسط إقبال لافِت للناخبين، وتوجَّهنا صعوداً في اتّجاه عاصمة الأمراء دير القمر، حيث تبرز المنافسة المستعِرة بين الأحزاب، لائحة «القرار لدير القمر» المدعومة من حزب «الوطنيين الأحرار» والوزير السابق ناجي البستاني، ولائحة «دير القمر بلدتي» المدعومة من «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر».
يبلغ عدد المسجّلين على لوائح الشطب نحو 10 آلاف، فيما يسجّل عدد المقترعين نحو 3 آلاف صوت، وقد بدا الإقبال في مدرسة دير القمر الفنّية خجولاً في الساعات الأولى، إذ إنّ معظم الأهالي لم يحضروا بعد للاصطياف، والحضورُ من بيروت يستلزم وقتاً.
على رغم سَيل الاتّهامات التي سَبقت التحضيرات لهذه المعركة وأدّت إلى تشنّج الأجواء بين العائلات، والحديث عن «سَحب البساط من تحت الأحرار» أو «الغدر بداني شمعون»، بالإضافة إلى علامات الاستفهام التي شغلت الديرانيين: «منذ متى يتحالف ناجي ودوري؟».
إلّا أنّ الأهالي بحكمتهم حافظوا على قدر عالٍ من المسؤولية، والتزَموا التعبير عن موقفهم في صناديق الاقتراع، لذا خَلا الاستحقاق من أيّ خلاف يُذكر.
لا بل إنّ الأجواء بدت سَلِسة بعد مصافحة عفوية بين شمعون والنائب جورج عدوان. مع الإشارة إلى أنّ أهلَ الدير لم ينشغلوا في الاستحقاق كلّياً، بل حرصَ معظمهم على المشاركة في الذبيحة الإلهية في كنيسة شفيعة البلدة «سيّدة التلّة».
بدت الحركة داخل مراكز الاقتراع عاديّة، وكأنّ التأثير على رأي «الديراني» في اللحظات الأخيرة لا ينفع، لذا فكانَ عدد المندوبين الثابتين للّائحتين أكثرَ من المتجوّلين.
عند الساعة العاشرة حضَر شمعون للاقتراع في المدرسة الفنّية يرافقه رئيس اللائحة فادي حنَين، وعلى هامش مشاركته في الاقتراع، قال لـ«الجمهورية»: «لا أحد يمكنه أخذ القرار من أبناء دير القمر، وغداً (اليوم) ستُظهِر النتائج ذلك، ونحن أوّل مَن يريد مصلحة «الدير» ونَعتبر أنّ اللائحة التي نَدعمها تمثّلُ الأهالي أفضلَ تمثيل وتخدم مصلحة البلدة». وأضاف: «إنطلاقاً من تجربتي مع «الديارنة»، كلّي ثقة بأنّهم يختارون الأفضل لبلدتهم، ويبقى الرهان على غيرةِ الأبناء على بلدتهم».
وقبل أن يتوجّه عدوان للاقتراع عند الثانية عشرةَ ظهراً، أكّد لـ«الجمهورية»، «أنّ معظم أسماء لائحة «بلدتي» من الشمعونيين أباً عن جد»، مشيراً «إلى انزعاج البعض من تزايُد الحضور القوّاتي في الجبل، ما أدّى إلى رمي الشائعات وإثارة الفتَن والأحقاد». وأضاف: «أيّاً تكن النتيجة نُصِرّ على التزام الهدوء واستيعاب الآخرين، لأنّنا نريد مصلحة الجبل وأهل الدير، ونحن منفتحون».
بريح
خَلت ساحة داني شمعون من روّادها، وكانت صوَر الشهيد داني شمعون المعلّقة على قناطرها سيّدة الكلام. هدوء تمنّى الجميع لو غالباً يُظلّل قلوبَ أبناء البلدة، لأنّه يكفيها ما تَكبَّدته من دماء.
إلّا أنّ الأثمان التي دفعَتها بريح لا تقلّ عن أوجاع الديرانيين، فكان لا بدّ مِن زيارة تلك البلدة النائية التي دخَلت حديثاً معترَك الديموقراطية عبر انتخاب أوّل مجلس بلدي لها منذ العام 1963. ففي هذه البلدة جوعٌ قديم وعطشٌ تاريخي لعودة الحياة، فكانت أن تَبارزت لائحتان «من أجل بريح» و«بريح العيش المشترك» بالإضافة إلى مرشّحين منفردين.
معبِّراً بدا مشهدُ العائلات التي تفترش الباطون ريثما تنفرج مادّياً، وهي أصَرَّت على الحضور والاقتراع. ومِن العمَّة جوسلين خوري وصية لرئيس البلدية المرتقَب: «بعد 30 سنة تهجير ما ضَل بشَر ولا حجَر، ولِندفع «بالتنقيط» حيط ما شترالنا؟»، لذا «مِش حَيلّا نَعمل رئيس بلدية، بدّو يكون مسؤول».
وليلاً اظهرت النتائج الأولية فوز «وحدة الدامور»، وتقدم للائحة «بريح العيش المشترك». أما في دير القمر فبقيت النتائج ضبابية حتى ساعات متأخرة مع تسجيل تقدم طفيف للائحة «دير القمر بلدتي».