لم يعد المسيحي اللبناني في وارد الرهان على الدور الغربي بعد النكسات المتلاحقة، لكن في قرارة نفسه كان يظن أنّ أوروبا تريد الحفاظ على الدور المسيحي في لبنان والشرق.
يعيش المسيحي اللبناني خيبة أمل كبيرة وهو يسمع المسؤولين الأوروبيين يزورون لبنان ويتحدّثون عن ملف النزوح السوري باستخفاف وعدم العمل على إعادتهم، وهم الذين تلوّعوا من اللجوء الفلسطيني ومحاولة جعل لبنان وطناً بديلاً.
«أوروبا لا يهمّها مسيحيي لبنان، بل مصالحها»، هذا لسان حال كل الشعب المسيحي، لكنّ الشيء الجديد والخطِر أنّ الإكليروس المسيحي بدأ يتململ من التصاريح الأوروبية ومن عدم المبالاة في تقدير خطر النزوح على الوجود المسيحي.
لا يستطيع أحدٌ إنكارَ أنّ مسيحيي لبنان تأثّروا بالنموذج الأوروبي ونقلوه الى الشرق، نظراً لعوامل عدّة أبرزها القرب الديني، لكنّ الرأيَ السائدَ عندهم حالياً أنّ أوروبا باعت مسيحيتها وقضية مسيحيي لبنان، فلم يعد يهمّ «ألقارة العجوز» توطين أكثر من مليوني سوري ونصف مليون فلسطيني في لبنان، ما يجعل مسيحيّيه أقلية في وطنهم، في مقابل إبعاد خطر النزوح عن أرضها.
ولا يخفي البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي غضبه على إستمرار الحروب والتهجير في دول الشرق، ويتهم الدول الكبرى بعدم العمل على إطفاء الحروب، وطبعاً المقصود من الدول الكبرى معروف.
خيبة الأمل من المواقف الأوروبية والغربية المتتالية تخيّم على المرجعيات الدينية المسيحية الموجودة في لبنان. والنقطة الجامعة بينهم أنّ الغرب هو مَن يساهم في إبقاء النازحين عوض العمل على إعادتهم الى بلادهم، وظهر هذ الأمر جلياً من خلال تصاريح الموفدين الأوروبيين.
ومن خلال بعض المعطيات، يظهر لدى بعض المراجع الكنسية كيف أنّ الغرب كان مرحِّباً بتهجير المسيحيين من الشرق، خصوصاً أنّ نسبة الولادات في «القارة العجوز» متدنّية جداً، وكانوا بأمسّ الحاجة الى مهاجرين جدد، لا بل مهجّرين مسيحيين يندمجون بسرعة في مجتمعاتهم ويشكّلون قوة عاملة شابة، وما زال شعار la france a besoin d’enfants الذي أُطلق في نهاية التسعينات يُعبّر عن المأزق الذي تمرّ به أوروبا من هذه الناحية.
ويقول أحد الشخصيات الكنسية الذي لعب دوراً بارزاً أثناء الحرب الأهلية اللبنانية: «إنّنا عُزلنا وأُحرقت قرانا وبلداتنا وهاجمنا الفلسطينيون من كل النواحي ولم نحصل على بارودة واحدة من أوروبا للدفاع عن أنفسنا، وبالنتيجة فقد هاجر أكثر من مليون مسيحي في الثمانينات، واستمرّ نزيف الهجرة حتى نضب البئرُ المسيحي اللبناني من شبابه، وكل الذين هاجروا هم ناجحون الآن في أوروبا وفي أستراليا وكندا».
وبعد حرب العراق عام 2003، هاجر أكثر من نصف مليون مسيحي من العراق، هم أتوا الى لبنان فاستقبلتهم السفارات ورحّلتهم الى بلدانها، من ثمّ أتت «داعش» وهجّرت ما تبقى من مسيحيي العراق ومن ثمّ سوريا، وعندما لم يسدّ هؤلاء الحاجة الغربية بسبب نقص الولادات عندهم، أخذت الدول الأوروبية وكندا وأوستراليا مهجرين غيرَ مسيحيين.
وترى مراجع كنَسية أنّ المسيحي في الشرق عموماً، وفي لبنان خصوصاً، يُعلّم أولاده في مدارس خاصة مستنسَخة عن المناهج الأوروبية ويهيّئهم لينخرطوا في المجتمع، ويدفع الملايين ويبيع أرضه، وعندما ينهي أحدهم دراسته، ولأنّ بلداننا غير عادلة، يهاجر الى أوروبا والغرب، وبالتالي فإننا نقدّم لهم نخبة شبابنا الذين دفعنا المال الكثير لإعدادهم، على طبق من فضّة لينهضوا ببلدانهم التي تفتقد لعنصر الشباب، علماً أنّ المسيحي يندمج في المجتمعات الغربية بشكل سريع.
ويرى بعض من المسيحيين العاملين على خطّ النزوح أنه عندما لم تعد أوروبا تستوعب النازحين وبدأوا يسبّبون مشكلات، قررت عدم إستقبال المزيد، ولم تسعَ الى إعادتهم من دول «الترانسفير» التي لجأوا إليها، ومن ضمنها لبنان.
لذلك يقول المسؤولون الروحيون في لبنان إنّ أوروبا فقدت مسيحيتها لسببين أساسيين: الأول لأنها لا تهتم بالوجود المسيحي في لبنان والشرق، والسبب الثاني لأنها لا تهتم بإيقاف الحروب وإعادة النازحين الذين تهجّروا من بيوتهم وإنقاذهم من البؤس الذين يعيشون فيه والأذى الذي يسبّبونه للمجتمعات المضيفة، فالمسيحية والإنسانية قيمتان متلازمتان.
وبالنسبة الى الفاتيكان، فإنّ الموقف من النازحين معروف وهو يدعو الى حمايتهم إنسانياً، لكن في البداية لم يكن الكرسي الرسولي يقدّر خطر التحوّل الديموغرافي الذي سيضرب لبنان بسبب النازحين، في حين أنه يريد لبنان نموذجاً للعيش الإسلامي- المسيحي، لذلك، فإنّ الإستمرار بوجود النازحين سيحوّله الى بلد إسلامي تقطنه أقلية مسيحية، لذلك أدرك خطورة هذه النقطة، وعمدت دبلوماسية الفاتيكان الى التحذير من أنّ هذا الأمر سيؤدي الى كارثة.
لا شكّ أنّ قضية النزوح هي قضية وطنية بامتياز وليست مسيحية، لكنّ المسؤولية الأولى والأخيرة تقع على المجتمع الدولي الذي خذل لبنان بعد النكبة الفلسطينية ويخذله الآن أثناء النكسة السورية.