بعيدا عن الإعلام والضوضاء، في جلسات خاصة بين شخصيات متنوعة سياسيا في البيئة المسيحية، ثمة إجماع على أن الوضع المسيحي كما هو قائم اليوم بات عقيما، فضلا عن أن لا جدوى له على المسيحيين بعد أكثر من قرن على تشكيل الكيان اللبناني من أجلهم.
الأسئلة كثيرة حول هذه الجدوى ومثلها الاستنكارات من معاملة المسيحيين على هذا النحو، خاصة وان لا أفق لانتهاء أزمتهم التي يرون أنها وجودية وأبعد بكثير من مجرد رئاسة للجمهورية أو تعويم لحكومة تصريف أعمال باتت حاكمة بأمرها خلافا للدستور، وتعيينات في الدولة و«استيلاء» على مراكز مسيحية.. بينما لا يهتم أحد بانتخاب رئيس للجمهورية حتى بات المنصب فارغا من المضمون ما يعتبره المسيحيون مقصودا للتهميش كما للتهجير.
القضية المسيحية باتت محور لقاءات بعيدة عن الإعلام داخل كل جهة وتيار، لكن تتقاطع المخاصمات المسيحية الحزبية على نقاشها من أقصى اليمين حتى الإعتدال (إذا سلمنا بأن لا يسار هنا)، وذلك بالتناغم مع ما تبحثه المرجعية الدينية بكركي التي تشكل المظلة للهواجس المسيحية باستثناء من اختار مخاصمة خياراتها ومقاطعتها، حسب مجالسي تلك الحوارات.
الحروب والرهانات
بداية بنظرة نقدية لتلك الجلسات المفتوحة والتي يظهر بعضها جهارا، فإن الواقع الذي يهرب منه المسيحيون، قيادات وناشطين ورجال دين، هو أن الخلافات الداخلية التي وصلت إلى حد الاقتتال، مهدت أولا لهذا التهميش، معطوفة على رهانات خاطئة إقليمية ودولية.
فقد أوصل التنازع المسيحي تاريخيا إلى هذا الضعف تحديدا منذ بدء الحرب الأهلية، لكن خاصة في نحو منتصفها خلال معارك الأشقاء على وراثة الزعامة البشيرية ثم الكتائبية ثم المسيحية في وجه عام.
لكن الإقتتال الأكثر فتكا بطموحات المسيحيين والذي استنزفهم دما وهجرة، كان اقتتال الجيش اللبناني و»القوات المسيحية» الذي مهد لهزيمة 13 تشرين الأول 1990 ما مهد بدوره لاتفاق الطائف الذي فتح سوء تطبيقه الأبواب مشرعة لزمن الإحباط المسيحي.
ومن دون إعادة سردية تاريخية لكل ما حدث، فإن مرحلة السلم الأهلي التي تلت الطائف كانت مرحلة تكريس لهيمنة طوائفية، برعاية سورية، على المسيحيين الذين هُجرت قياداتهم الكبرى وسُجنت، في وقت تسوية إقليمية دولية كانت على حسابهم.
تمكن المسيحيون من حفظ وجودهم سرا وناضلوا مع مرجعيتهم الدينية بكركي، تقيّة وعلنا، ثم تقاطع ذلك مع ظروف دولية واغتيال الرئيس رفيق الحريري العام 2005، فتجاوزوا الإحباط معتقدين بأنه لم يعد قدرا لصياغة تاريخ جديد.
لكن كأنه القدر المحتوم. فحروب القيادات المسيحية التي لا تنتهي، ثم التناقضات في الخيارات الاستراتيجية لناحية رؤية دور المسيحية في الشرق والحلف مع «حزب الله»، كانت عوامل أعادت صياغة مشهد مسيحي مؤسف لا أفق له ونتيجته واحدة بعيدا عن تحميل المسؤوليات: هزائم سياسية، كارثة اقتصادية (على اللبنانيين في العموم) ونزف ديموغرافي وتهميش في الحكم، والأخطر، عدم إيمان بجدوى العيش المشترك وإحباط من نوع أعمق من سابقه في ظل رغبة هذه المرة بالطلاق لدى شرائح كبيرة!
هذا هو الجو المسيحي العام بفئاته المتعددة، مهما كابر كثيرون من غير المسيحيين بنفيه.
اللوم لـ «حزب الله»
إلا ان الأسوأ بالنسبة إلى الوجدان المسيحي، هو أن الشركاء في الوطن لا يبدو أنهم آبهين بهذا الإحباط الدائم وهم لا يأخذون على محمل الجد نزوع المسيحيين نحو الطلاق بذريعة عدم قدرتهم عليه وليس بسبب انتفاء هذا الشعور!
يتوجه اللوم المسيحي العام نحو «حزب الله» الذي يُعتبر بأنه من يقود الشيعية السياسية الحاكمة للبلاد المُنقلبة على إتفاق الطائف والدولة اللبنانية.
في الجلسات الداخلية حيث حوارات حول جدوى الحرب الدائرة في الجنوب، يضاف هذا الموضوع إلى لائحة طويلة من الاعتراضات التي لا تقتصر على ما يُعرف باليمين المسيحي بل هي تعبر عن مزاج عام.
يقدم البعض مثال العلاقة بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» التي كان يُؤمل منها الكثير مسيحيا واستراتيجيا كما على صعيد بناء الدولة والشراكة.
شكل فشل تفاهم مار مخايل دليلا جديدا لهذا المزاج حيث بات التيار ينحو في اتجاهه مع لازمة القناعة بسلاح المقاومة لكن مع الدعوة إلى حوار حولها واستراتيجية دفاعية لا تزال غامضة، وسط استمرار القناعة باللاطلاق السياسي مع الحزب.
في كل حادثة جديدة وكل موقف جديد، كما يحصل في القرى الجنوبية مثلا، يُسكب الزيت على نار مشاعر الخصومة التي يُعبر عنها على وسائل التواصل الإجتماعي في شكل علني متوتر، بينما تحتفظ أقلية وازنة بموقف عقلاني يتهم المتطرفون بعضها بتلقي الدعم من الحزب للخروج بمثل تلك المواقف الداعية الى الوحدة..
دور بكركي الراعي
لكن في كل الأحوال فإن المزاج المحكي عنه لا ينبىء بالخير. فالطائف لم يطبق، والمسيحيون خارج الدولة (وهم غير مهتمين بها أصلا وهذه نقطة ضدهم)، وهم باتوا خارج اللعبة التي تدار من دونهم.
ولعل الدليل الأكبر على هذه العدائية يقدمه حتى المعتدلون منهم في موضوع رئاسة الجمهورية مع الاصرار على استبعاد مرشح تقاطع المسيحيين بغض النظر عن جديته من عدمها. ثم عبر تعويم حكومة تصريف الأعمال مرورا بفقدان المسيحيين حصصهم الكبرى في الدولة.. وإذا كان الحديث يطول. فإنه حتى لو تحقق للمسيحيين وصول رئيس يختارونه، فإن المزاج المسيحي ذاهب نحو التقوقع وربما الإنعزال وقد يكون فات الأوان لو تصالح معه الآخر بعد حين..
لن يخرج المسيحيون من حالهم الممزق وانقساماتهم من دون حوار داخلي حقيقي، فالتهديد يعم المجتمع في أساسه، حوار برعاية بكركي الراعي الأساس للمسيحيين والتي رعتهم خلال الإحباط الأول حتى «التحرير» في العام 2005.
في موازاة ذلك ثمة مهمة كبرى على الآخر في التقارب منهم، لا سيما «حزب الله»، لصالحهم كما لصالح الحزب. ذلك أن الأمر يتعدى سوء التفاهم إلى عدم فهم كل طرف للآخر. وبذلك يكون الحزب سحب البساط من تحت أقدام اليمين الذي لا يريد التفاهم ويضغط في اتجاه الإبتعاد عن الشريك، ويهدف في ما يهدف إلى نزع سلاح المقاومة..
أما الملجأ الأول والأخير فسيبقى الطائف الذي لا سبيل لاتفاق غيره في المدى الزمني الحالي والمقبل.
الإتفاق الذي وضع حدا للحرب الأهلية وبقي من دون تطبيق حقيقي لا سيما في اللامركزية الادارية التي توفر جانبا من الاطمئنان للمسيحيين، مع استبعاد التفسير الأحادي لما لم ينص عليه الإتفاق العام 1989، وعلى رأس ذلك الهيمنة المالية، ما سيوفر بدوره قبولا لتطبيق باقي بنود الطائف والأهم هنا تشكيل الهيئة الوطنية للبحث في إلغاء الطائفية السياسية.
لكن قبل كل ذلك يبقى الأهم اليوم الشروع في حوار مسيحي مسيحي، ثم حوار مسيحي إسلامي، للحفاظ على الحد الأدنى من منطق التعايش.. ولو الكاذب!