يرسو المشهد السياسي اللبناني على ثبات القرار بتطبيع العلاقة بين تيار المستقبل وبين التيار الوطني الحر منذ التسوية الرئاسية التي حولت رئيس الجمهورية ميشال عون مظلة لهما وكذلك هو الأمر بين المستقبل وبين حزب الله المرتكز على قاعدة «ربط النزاع» الذي اعلنه رئيس الحكومة سعد الحريري، في مقابل اعتراض سنّي على كيفية ادارة التسوية الرئاسية وربط النزاع. وصولا الى حد التنازل في رأي عدد من سياسييها، حتى ان التباين السني او الشيعي يبقى ضمن اطار غير مقلق لقواعد هولاء.
في المقابل، تبدو البيئة المسيحية تعيش في حالة اضطراب وعدم استقرار على خلفية التوترات المتداخلة بين معظم الأحزاب المسيحية التي تتصارع على ما ابقت للمسيحيين من حضور ودور نتيجة سياساتها وممارساتها وحروبها، دون اغفال القلق الدرزي نتيجة غياب الحضانة الطبيعية من اركان الدولة لهذه الشريحة التي تمتلك هواجس لا يمكن تذليلها الا بطمأنتها بأن الدولة العادلة قادرة على اعطاء الحقوق وتحقيق العدالة للمكونات كافة.
فالقلق المسيحي في هذه البيئة هو أبعد من تخلي الأحزاب المسيحية عن بلدات قرى شرقي صيدا والقبول بفصلها عن دائرة جزين، او عدم احترام قرار الأهالي وأبناء منطقة المتن الشمالي الرافضين بناء المخطط الحالي لجسر جل الديب او مد خط شبكة التوتر العالي في المنصورية رغما عن الأهالي بعد قمعهم والتهويل سياسيا عليهم وتطبيق «الموت الرحيم» عليهم. فالقلق الذي لا تخلو «جلسة مسيحية» او مناسبة صدفة او عفوية بالتعبير عنه بات في قناعة الوسط المسيحي والى جانبه الحزبيين احيانا يكمن في النظرة الموحدة نحو انعدام الرؤية الاستراتيجية لدى هذه الأحزاب حيال كيفية التعاطي مع اللامبالاة المسيحية مما باتت تشهده البلاد حيث تغيب الأفكار الهادفة لتعزيز وجود هؤلاء ومنع من تبقى منهم من الهجرة قبل الكلام عن عودة المغتربين وربطهم بالانتخابات النيابية.
اذ يبدو واضحا وفق الكلام داخل الأوساط المسيحية ان ثمة افتقاد لرؤية سياسية -كنسية موحدة من شأنها أن تعزز البقاء من خلال مناخ سياسي مطمئن وخطوات اقتصادية عملانية تعطي آمالا باحتواء بعضهم منعا لهجرتهم من خلال استحداث مشاريع وفرص عمل تحد من هذه الظاهرة المتنامية، على غرار النهج المعتمد عند غير قوى سعت لإنشاء مؤسسات توفر ما أمكن من فرص عمل لقطع طريق الهجرة على ابناء «ملتها».
وتقابل هذه الأحزاب الانحسار المسيحي هذا بترداد مقولة موحدة، بأن المسيحيين مر عليهم أكثر من ذلك وتمكنوا من تجاوز التحديات، وهو الكلام الذي بات مرفوضا داخل هذه البيئة التي تجد ان هذا الواقع كان يصح في زمن مختلف عن الحالي وتوازناته الديموغرافية، وهو غير مقبول بعد عقود من دخول المسيحيين مرحلة الخطر الوجودي وغياب رؤيا موحدة تعطي ضمانة للأجيال المقبلة. اذ يبدو بأن ثمة أحزاب تخجل من المطالبة بما أعطاه الدستور من توازن «وتتفرج» على افراغ الإدارة من المسيحيين دون اي ردة فعل نتيجة الطموحات الرئاسية المستقبلية التي تعتبر ان «الذمية» هي معبر اولي نحو هكذا مناصب، لذلك فإن اي موقف له صلة بالمسيحيين وواقعهم يغيب عن الخطاب الحزبي المسيحي لعدم احراج اي فريق آخر.والذي قد يكون منطلقه وطني غير مذهبي بهدف تصحيح الخلل في ضوء مواقف قادة الطوائف التي تحمل حرصا على الشراكة والتنوع.
وقد بدأت ترسخ المواقف التي حملت صورة الخلافات الحادة بين الأحزاب المسيحية بعد جملة محطات من «مد وجزر» في التقارب والمصالحات قناعة بأن هذه الشريحة المسيحية لم يعد بامكانها ان تأسر مصيرها لحسابات الضيقة والخاصة للقادة الحزبيين بحيث يتوافق بعضهم على إلغاء الاخر على خلفية التلاقي المخفف حول أهداف خاصة ثم تتبدل التحالفات فتعود الخلافات لتعيد الى الذاكرة انعدام الرؤية والفن القيادي و«سعة القلب والعقل السياسيين» الذي تميز به مؤسسي الأحزاب المسيحية، اذ لم يعد مقبولا ربط مصير ما تبقى من المسيحيين لقوى محددة منذ نحو 3 عقود حتى يومنا هذا، أضحت حالات عائلية – إقطاعية بغلاف حزبي، لان الحاجة باتت ملحة الى انحسار دور هذه الأحزاب الفاشلة لصالح بروز وجوه جديدة او حالات سياسية متحررة من «العبودية الحزبية» التي تحول النواب والمرشحين الى اصنام ناطقين يمجدون مسؤوليهم، على حساب الحقيقة وتعمل على رهن المسيحيين وفق حساباتها السياسية غير الثابتة او المبدئية نتيجة توارثها للخلافات.
ويرفع من درجة هذا القلق لدى الاوساط المسيحية تبيان واضح بان نظرية رئيس الجمهورية القوي المحصن شعبيا – نيابيا – وزاريا على غرار الرئيس ميشال عون لم تؤت بثمارها بعد، لناحية اعادة المسيحيين الى الدولة، اذ تعثر هذا الجانب الذي تقوده حيزا منه مؤسسة «لابورا» نتيجة تلكؤ عدد من الأحزاب وتوفر حسابات لاحدها باستغلاله لصالح تعيين محسوبين عليها على ما هو الواقع مع مديرية التعاونيات غلوريا ابو زيد، ليظهر الامر بان لا حصانة للموظف المسيحي ولو نال حقه قانونيا، بما لا يشجع على الاندفاع نحو دخول الوظيفة في ظل الذمية المسيحية المعتمدة.
فقد بدت الأحزاب تتناتش الارث المسيحي والماروني خاصة الذي تميز برجالات على غرار الرئيس الراحل فؤاد شهاب وكل من «العمالقة» الراحلين كميل شمعون، سليمان فرنجية، بيار الجميل وريمون أده وبشير الجميل او ذوي الفكر المسيحي المغذي وطنيا لهذه البيئة ودورها كالوزير السابق ميشال أده ، والراحلين ادوارحنين، شارل مالك …، ناهيك عن عدد حالي من الحالات النيابية الحالية والسابقة التي كان لا يزال لها بصمات في الحياة السياسية والتشريعية وتتلاقى الأحزاب لا إراديا على الغائها لصالح الهيمنة السلطوية الفاقدة لرؤية تحصين البقاء.