يرصد اللبنانيون بعيونهم وآذانهم التطورات الانقلابية الحاصلة من حولهم. أولياء الأمر الدولي لا يعلنونها بالفم الملآن، لكن حراكهم يدلّ بالإصبع عليها: خريطة جديدة للشرق الأوسط ترسم بالدم والنار. قد لا تتبلور معالمها في القريب العاجل، ولكنها صارت قدراً محتوماً يُمهر بتوقيع دولي.
تحاول القوى المحلية الفاعلة محاصرة النيران المتأتية من خلف الحدود، من خلال تخفيف منسوب التنشج والتقليل من مسببات التوتر، حيث يُتكل على المسارات الحوارية في أداء هذا الدور. ولكن هؤلاء لا يخفون خشيتهم من أن تكون الأحداث الحاصلة وتلك التي ستحصل، أكبر من قدرتهم على ضبط إيقاعها، ولا سيما أنّ الزلزال الانقلابي قد لا يعفي لبنان من موجباته وترتيباته المستقلبية.
السيد حسن نصر الله قالها بكلام واضح وصريح في الخطاب الذي ألقاه منذ نحو شهر: «المنطقة تعجن وتصنع من جديد. من يريد أن يقرر مصير لبنان يجب أن يكون حاضراً في مصير المنطقة ومن يريد أن يغيب فهو يقول للآخرين اصنعوا مصيرنا»… إذاً أوراق الشرق الأوسط ترتّب من جديد شئنا أم أبينا. الكل استمع جيداً لما أدلى به السيد وتفحّص كلماته بتمعنّ شديد وقرأ ما بينها حرفاً حرفاً، سواء كانوا من صنف الحلفاء أو الخصوم. لكن من منهم تلقّف هذا الكلام؟
يغرق المسيحيون، وتحديداً الموارنة، في دوامة الرئاسة، لا بل في «كشتبانها». لمن ستكون؟ وكيف ستكون؟ هل ستكون أصلاً؟ من هم أصحاب المؤهلات: الأقوياء أم التوافقيون؟ ما هي أضرار التمديد؟ وما هي مكاسب الاستعجال؟
تساؤلات كثيرة تستجدي إجابات أكثر، ولكن ما من فريق يتبرّع في التفكير ملياً في ما قد تحمله رمال المنطقة المتحركة، وكأنّ هؤلاء مصابون بكسل فكريّ يسجنهم في قفص صغير اسمه الكرسي الأولى ويمنعهم من رؤية ما يدور من حوله.. حتى لو كانوا أول المعنيين به.
العناية الدولية شاءت هذه المرة أن تجمّد المستنقع اللبناني فتحميه بمظلة الاستقرار حتى لو كان هشاً، وإلا لكان المسيحيون من ركاب قافلة الهجرة القسرية التي قادت أبناء كنيستهم السوريين والعراقيين إلى الغربة.
هكذا ألقى العماد ميشال عون وسمير جعجع بعضاً من تاريخهما الدموي جانباً وقررا السير بمشروع حواري يعرفان سلفاً أنّ طموحاته محدودة وسقوفه ليست بعالية، ولا يتمتع بالكفاءة التي تسمح له بإحداث تغيير كبير أو نقلة نوعية في المسار العام أو إحداث خرق في الاستراتيجيات أو حتى في قانون الانتخابات، ويمكن له أن يوقف عند أي مفترق. فالرئاسة جمعت ممثليهما ابرهيم كنعان وملحم رياشي عند قواسم «إعلان النوايا» المشتركة، وهي التي قد تفرقهما.
ومع ذلك لا يزال الحوار في غرفة العناية الفائقة ينبض بالأوكسيجين الاصطناعي، لأنّ أي خطوة ناقصة سترتّب على «الجاني» مسؤولية لا تُغتفر أمام «مذبح» الرأي المسيحي. ولهذا يُترك الحوار يسير على هداه، على طريقة «عين الله ترعاه».
وطالما أنّ المزاج الشعبي مرتاح للجلسات الثنائية بين الفريقين حتى لو لم يهضمها بعض الحزبيين الذين لم يخرجوا من قوقعة لعبة «القط والفأر»، ولم تنجح حتى في جمع «الرأسَين»، فإنّه من غير الصحيّ إعلان وفاتها ودفنها بمراسم سريعة.
ولكن في هذه الأثناء، يقزّم «التيار الوطني الحر» حراكه في فورته التنظيمية الانتخابية أملاً بأن يتمكن من الخروج من «قبضة العائلة» إلى «رحاب المؤسسة». يحلمون بصناديق صغيرة تملأ فضاء ديموقراطيتهم، ومع ذلك لا تزال أحلامهم حبراً على ورق تحتاج إلى الكثير من الخطوات العملية والتطبيقية كي تصير واقعاً.
أما «القوات» فعينها على الغد بما يعنيه من مكاسب شعبية لا المصير، فتكرّس جهودها لتكديس أرقام المؤيدين في استطلاعات الرأي، من خلال تلميع صورتها وتجميع براءات الذمة التي تسمح لها بعد حين اختراق كل الملاعب.. وتحديداً التي كانت من المحرمات.
في حين أنّ حزب «الكتائب» لا يزال غارقاً في المناكفات العائلية بين الأب والابن وبين أبناء العمّ، ويحتار بالسياسة بين مصلحته الآنية وبين طموحات قيادته المستقبلية: أيهما أجدى.. البقاء في سجن «14 آذار» الذي يكبّل أفكاره التوسّعية أم الانتقال إلى حضن الخصوم وكسب ما أمكن من فوائد الغنج والدلال؟
أما تيار «المردة» فمنشغل هذه الأيام في مسألة التوريث النيابي: هل حان زمن طوني فرنجية في الجلوس على كرسي والده البرلماني أم بعد؟
حتى البطريركية المارونية تخصص كل جهودها للرد على أسهم الانتقادات التي تطالها، ويكتفي بعض ممثليها بالسؤال بين الحين والآخر ما إذا كان «حزب الله» لا يزال داعماً للجنرال أم تخلى عنه…
هكذا، يصعب إيجاد من يبحث عن «خطة ب» قد تجيب عن سيناريوهات التغيير المطروحة على مائدة الشرق الأوسط، والتي ستفرض أحكامها على الشطرنج اللبنانية وستدفع بأصحاب العلاقة إلى استلحاق أنفسهم لوضع صياغات اللحظات الأخيرة لتكون بمثابة جوائز ترضية لا أكثر.