إذا كانت الكرة الرئاسية في ملعب المسيحيين، قوى وأحزابا وشخصيات ومرجعية دينية، فإن هواجس هؤلاء أكبر من مجرد رئيس تمثيلي ترضى غالبيتهم عليه.
لكن البصمة المسيحية على الرئاسة هي الخلاصة الطبيعية للسباق الرئاسي الذي لن ينتهي قريبا، منذ ما قبل اطلاق صافرة بدايته. هذه البصمة هي العقدة كما الحل. واللافت أن المعركة الرئاسية تتخذ اليوم عنوانا داخليا مهما كان التأثير الخارجي عليها.
ثمة مقولة تسطيحية للمعضلة الرئاسية تقوم على اعتبار أن التسوية الخارجية ستكون على حساب المسيحيين كما كانت في مرحلة الطائف عندما رفض هؤلاء ذلك الاتفاق الحاصل حينها على الرعاية العربية والدولية.
لكنها لن تكون كذلك ولا يبدو الأمس شديد الشبه باليوم.
لقد عرفت البلاد أكثر من امتحان تمكنت عبره قوى مسيحية من إعاقة فرض الحل من الخارج حتى لو اجتمعت عليه قوى كبرى ذات هيمنة على المسار الحربي والنزاع اللبناني.
في عودة بالذاكرة الى العام 1986، أجهض قادة مسيحيون الاتفاق الثلاثي الذي رعته سوريا لوضع حد للحرب الأهلية، بغض طرف أميركي وموافقة ضمنية عربية في شكل عام، مع الثلاثي الصائغ للتسوية اللبنانية: “القوات اللبنانية” المسيحية التي كانت اللاعب الأهم في المعادلة المسيحية، وكان حينها الجيش اللبناني بقيادة العماد ميشال عون غير معارض جذريا لهذا الحل، وكان الرئيس أمين الجميل وحزب “الكتائب” ضعيفين الى حد كبير، بينما تحولت حينها “الجبهة اللبنانية” حيث الاحزاب والشخصيات المسيحية ومنهم الرئيس الأسبق كميل شمعون، الى جثة من الماضي.
تواجد في ذلك الحين المكون الشيعي الذي برزت فيه حركة “أمل” ومعها المكون الدرزي “الحزب التقدمي الإشتراكي”. بينما غاب المكون السني مع تهجير قياداته وضرب أحزابه لكن بصمة رجل الأعمال حينها رفيق الحريري كانت حاضرة.
حينها اعترض جزء وازن من داخل القوات على الاتفاق وانقلب قائد الأركان أي الجناح العسكري سمير جعجع على قيادة إيلي حبيقة رغم احتفاظ الاخير بجهاز الامن والمخابرات، وتمكن المعارضون من قلب الأمور.
تكرر الأمر في أواخر العام 1988. فقد وقف جعجع (وعون ضمنا) ضد فرض مخايل الضاهر رئيسا باتفاق سوري أميركي عندما كانت الجملة الشهيرة للديبلوماسي الأميركي المكوكي ريتشارد مورفي: الضاهر أو الفوضى. وتمكن المسيحيون من تفادي الأسوأ مع تنصيب عون رئيسا للحكومة العسكرية الانتقالية.
ومع تسوية الطائف، لم يكن الاجماع المسيحي على رفضه حاضرا بل كان الانقسام سيد الموقف. البطريركية المارونية باركته وشكلت الغطاء له مع “القوات اللبنانية” بعد إضعاف عون على أثر معركته العسكرية مع القوات التي سميت مسيحياً شعبياً بـ”حرب الشرقية” و “حرب الإلغاء” عند القواتيين.
تكرر الأمر عند معارضة عون وجعجع لوصول زعيم “تيار المردة” سليمان فرنجية العامين 2015 و2016، رغم الموافقة الخليجية ضمنا عليه والغطاء السني له. مع فارق أن “حزب الله” لم يكن موافقا على فرنجية حينها وهذا عامل كان بالغ الاهمية في منع وصول مرشح غير عون.
على أن التشابه الكبير بين وقائع ماضية لا سيما قبل الطائف، يتركز في التنازع المسيحي المسيحي.
في الثمانينيات والتسعينيات ما كان للإحباط المسيحي أن يكون بهذا العمق لولا الاقتتال الداخلي في المناطق “الشرقية” والتصفيات العسكرية التي حدثت في مرحلة ما بعد اغتيال بشير الجميل، وصولاً الى اقتتال العام 1990 الذي عبّد الطريق أمام هزيمة ميشال عون ومن ثم تكريس “الهزيمة” المسيحية وشتات قياداتها سجوناً ومنافي.
لكن الوضع المسيحي البائس في الثمانينيات وضع اتفاق الطائف حدا له وإلا لكان استمر وأدى الى سيناريوهات أكثر خطورة ما يفسر القبول بالطائف كالحل الاقل سوءا، وإن انتقص من الرئيس المسيحي الكثير من الصلاحيات. والمفارقة هنا أن الطائف نفسه هو الذي كرّس الاتفاق الثلاثي الذي أسقطته القيادات التي تقاتلت من بعده.
على أن المأزق نفسه على صعيد الخلاف المسيحي هو المسؤول عن تراجع الدور المسيحي بعد تسوية اتفاق الدوحة 2008، وصولا الى الفراغ الحالي، مع فارق أن الاهتمام بالدور المسيحي خارجيا اليوم تراجع عنه في الماضي، حتى ان لبنان نفسه لم يعد على خارطة الدول الكبرى وسط أزماتها المتلاحقة.
الخلاصة أنه من دون حل مسيحي لن يتم وضع حد للفراغ الرئاسي الحالي، ما ينفي مقولة إما رئيس وإما الفوضى لفرض معادلة سليمان فرنجية رئيساً.
ووسط مرحلة اعادة توازنات وصياغة جديدة للواقع اللبناني، ثمة عمل على موقف مسيحي موحد حول مصير المسيحيين مستقبلاً.
لم تعد المسألة تتعلق برئيس للجمهورية بل بماهية هذه الجمهورية وبدور المسيحيين فيها. هو موقف تتقاطع عليه القوى الكبرى مسيحيا مهما اختلفت حول خيارات سياسية أخرى، وهو ما يجب على الآخرين فهمه وتفهمه بمراعاة هواجس المسيحيين الذين يدفعون منذ زمن الثمن الأول لغياب الدولة والفوضى.