IMLebanon

لبنان: الصراع المسيحي ـ المسيحي عود على بدء

 

لو كُلف أحد كبار المخرجين السينمائيين تصوير الحال التي وصل إليها لبنان لن ينجح بقدر القاضية غادة عون مع اقتحامها المتكرر لشركة «مكتف» للصيرفة: حال من الفراغ القاتل والدمار الشامل لكل المؤسسات، بات معها المواطن العادي كأنه معلق في الهواء، عارياً ووحيداً.

هذه الحادثة غير المألوفة من قضاة تدخل في سياق مسار تدميري طويل يفرض عنوة على لبنان منذ عقود تعدت الثلاثة، مساراً غير عبثي وهادفاً ويظهر دوماً أغراضاً قديمة ومستجدة.

إن اقتحام شركة «مكتف» لا يخرج عن سياق أزمة تشكيل الحكومة بين الرئيس المكلف ورئيس الجمهورية بسبب شعارات رنانة وشعبوية أكثر منها مطالب تراعي المصلحة الوطنية العليا مثل حقوق المسيحيين والثلث المعطل وتفسير الدستور. هو إضافة جديدة في إطار تسعير الخلاف السني – المسيحي مع تموضع القاضية عون المارونية المقربة من رئيس الجمهورية والتيار العوني في مواجهة مدعي عام التمييز السني غسان عويدات. وهذا الشق من المشهدية الميلودرامية – الهزلية يبدو هامشياً قياساً بأبعاده التي تشي بصراع مسيحي – مسيحي درجت عليه جماعة التيار العوني، أو ما يعرف بحركة الجنرال ميشال عون منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي، عندما تسلم الجنرال رئاسة الحكومة العسكرية الانتقالية من الرئيس أمين الجميل بهدف انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

يومها، بدأت الخلافات المسيحية – المسيحية تطفو على السطح بخلاف أولي مرره الجنرال بين «القوات اللبنانية» و«حزب الكتائب» في إقليم المتن الشمالي، ثم انتقل في 14 فبراير (شباط) 1989 إلى اصطدام أمني كبير في منطقة الضبية بين «القوات اللبنانية» والجيش اللبناني بقيادة عون الذي لم يترك يومها في مؤتمر صحافي عقده نعوتاً شائنة إلا وألصقها بـ«القوات اللبنانية». وكان هذا الاصطدام مقدمة «لحرب الإلغاء» الكبيرة التي شنها على «القوات اللبنانية»، التي قصمت ظهر لبنان وأدخلت يومها الجيش السوري إلى القصر الجمهوري وإلى وزارة الدفاع وعموم المناطق الشرقية، والتي كان مقدراً لها مع قيادة غير قيادة عون أن تشكل نواة لإعادة توحيد البلاد.

الانطباع اليوم هو استعادة مقيتة لأحداث عامي 1988 و1989 بمعنى الـ«Déja Vu»، يوم كان اللبنانيون يهدرون دماء بعضهم البعض بمختلف أطيافهم، لا سيما القتال المسيحي – المسيحي فيما النظام السوري يتفرج. يتكرر اليوم السيناريو نفسه وإيران و«حزب الله» يتفرجان على صراع احتكار الزعامة مستمتعين بقرب سقوط كل مقومات الدولة، وحينها فقط تستتب لهما الأمور. إن سقوط القضاء بعد رئاسة الجمهورية والسلطتين التشريعية والتنفيذية، يُظهر أن ما يجري هو مسلسل تدمير هادف وممنهج.

السؤال الملح اليوم كما كان سابقاً هو ما الذي يدور في خلد قادة الشارع العوني ليمعنوا في سياستهم تلك، إذ يبدو أنهم منذ عام 1988 وحتى اليوم لم يتورعوا عن أي شيء عبر ممارسات هوجاء سمتها مجموعة من العلل القاتلة. أول هذه العلل ضياع البوصلة السياسية، إذ تبين أنهم يجهلون حتى بديهيات المعطيات السياسية الداخلية الرئيسية، كما لا يلمون بحال الإقليم وتداعياته وشؤون السياسة الدولية. في عام 1989، قام الجنرال عون بتحالفات غريبة عجيبة أدت فيما أدت إليه لاقتحام الجيش السوري المناطق الشرقية وانتهت بفراره. واليوم، يبدو أن «التيار الوطني الحر» لا يدرك أو لا يريد أن يدرك حقيقة الأوضاع الداخلية والموازين الإقليمية والدولية السائدة، فاتحاً بذلك الباب على مصراعيه لإيران وحلفائها للاستيلاء على مقدرات البلاد، كما فتحها سابقاً أمام النظام السوري.

العلة الثانية لدى التيار العوني هي قناعته بأن الغاية تبرر الوسيلة. الغاية في المرة الأولى كانت وصول عون إلى الرئاسة ولم ينجح. وعندما وصل إلى الغاية المنشودة مدفوعاً بوثيقة التفاهم التي أبرمها مع «حزب الله» عام 2006، باتت المعركة تأمين الخلافة بعد انتهاء الولاية بما يسمح باستمرار النهج السياسي ذاته الذي كرسته هذه الوثيقة، ولو أدى ذلك كما سابقاً إلى إدخال البلاد في أنفاق مظلمة.

العلة الثالثة لدى التيار العوني والبعيدة كل البعد عن السياسة بشقيها النظري والواقعي، هي فكرة «المخلص» التي بدأت مع الجنرال المؤسس وورثها صهره جبران باسيل وتقمصتها القاضية عون. فمنذ وصوله إلى قصر بعبدا عام 1988 والرئيس عون يرى نفسه مخلصاً مختاراً، أما باسيل فلم يتورع مؤخراً ومن على منبر الصرح البطريركي عن تشبيه نفسه بالمسيح الذي لم «يتنازل»، وينسحب الأمر على القاضية عون التي تحاكي في صولاتها سير الفرسان في نشر العدالة ومطاردة الفاسدين! قد تكون علة المخلص بين «المختار» و«المكلف» هي ما جمع الجنرال والسيد حسن نصر الله في تفاهم ما ورائي غيبي بمعنى الكلمتين الحرفي والفلسفي!

إن المقارنة بين أحداث عامي 1988 – 1989 واليوم هي للتذكير وأخذ العبر بما يجعل الصورة أوضح. فليس من المبالغة الفجة اعتبار اقتحام القاضية عون لمكاتب «مكتف» للصيرفة وتمردها على السلطة القضائية ومرؤوسيها مؤشرين خطيرين، ليس فقط لاكتمال دائرة الانقلاب الذي بدأه «حزب الله» ومحوره، بل أيضاً لحرب أهلية مسيحية – مسيحية سببها الرئيس كرسي رئاسة الجمهورية، ولو كانت رهينة بيد هذا المحور بغية تأمين الغطاء اللازم والضروري لشرعنة هيمنة الحزب.

وتتهاوى مع هذا المشهد دعوات الفيدرالية وأشباهها كون غزوات القاضية عون بمثابة صورة مسبقة للمجتمع المسيحي ونزاعاته، إذا قُدر لدعاة الفيدرالية تحقيق حلمهم، صورة سبق أن شهدناها في خلال الحرب الأهلية وزمن حكومة الجنرال عون وحربه على «القوات اللبنانية».

وفي هذا السياق بالذات، لم يعد موقف الفاتيكان العارف ببواطن الأمور مستغرباً عندما أغفل مبادرتي البطريرك بشارة الراعي حول الحياد والمؤتمر الدولي، مع تجاهل البابا فرنسيس نفسه التطرق إليهما وعدم إبدائه أي حماسة تجاههما. وبحسب ما كتب الزميل بشارة البون، يعطي الفاتيكان «الأولوية لبقاء الشعب قبل تحييد الأرض». موقف ينسجم مع ما أعلنه الرئيس سعد الحريري من الفاتيكان بعد لقائه البابا الأسبوع الفائت حين قال إن «الموضوع ليس حقوق المسيحيين بل حقوق كل اللبنانيين». موقف الفاتيكان هذا يحاكي الواقع من جهة، كما ينسجم مع مواقف الدول الغربية بعامة من الأزمة اللبنانية منذ عام 1975، التي يمكن اختصارها منذ بداية النزاع، سواء كان أهلياً أو حروب قوات الخارج على أرضه، أنها لطالما سعت إلى تحقيق التوازن بين الأطراف الفاعلة. وتبين بالواقع الملموس والمؤكد أنه من دون رافعة إسلامية للمطالب المسيحية عبث المحاولة، فكيف مع انقسام المسيحيين الذي لا يخفى. وأبرز مثال على ذلك الضغوط الغربية لإخراج الجيش السوري من لبنان إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري والانتفاضة الشعبية العارمة التي أعقبته وأخذت بُعداً وطنياً كبيراً، وحصلت على تأييد واحتضان دولي نادر جراء انضمام المسيحيين والمسلمين في المطالبة الموحدة بخروج الجيش السوري، والتنديد بعملية الاغتيال وتحميل سوريا المسؤولية.

الخلاصة أنه في الوقت الذي تراعي فيه المواقف إزاء لبنان الصادرة عن الفاتيكان أو أوروبا أو أميركا موازين القوى الداخلية والإقليمية، يختنق لبنان بأيدي «مخلصيه» وهم لا يدركون أنهم مجرد «دون كيشوتات» وهم منقطعون عن الواقع، ويظنون أنهم فرسان في مهمة مقدسة، بينما تتوالى هزائمهم في كل المعارك المفتعلة لأنهم يلتهمون أنفسهم، فيما الرابح واحد وهو الجهة الساعية لتغيير وجه لبنان.