يعاني النظام اللبناني أزمة حقيقية، ويغيب الإنتظام عن عمل المؤسسات، ويشكّل غياب رئيس الجمهورية أحد أهم الأسباب التي تعطّل حسن سير المؤسسات. ولا يبدو في الأفق أي بوادر حلحلة قريبة للملف الرئاسي ما يدل على استمرار الأزمة على ما هي عليه. يطرق الفراغ أبواب العدد الأكبر من مؤسسات الدولة، لكن الأمر يختلف بين فراغ في مؤسسة صغيرة أو فراغ في حاكمية مصرف لبنان. وقد يدخل شهر آب «اللهاب» ولا يوجد حاكم أصيل للمركزي، ما سيزيد لهيب الأزمة المالية والإقتصادية والدولار.
ولا يتوقّف الأمر على حاكمية مصرف لبنان، بل يتعداه إلى كل مرافق الدولة، وهذا الموضوع قد يشكّل دافعاً إضافياً لاستعجال إنتخاب رئيس للجمهورية. وعلى هامش الصراعات والأزمات المندلعة من مسألة إنتخاب رئيس للجمهورية إلى نية حكومة تصريف الأعمال في تعيين حاكم جديد للمصرف المركزي، يُلاحظ من يتابع الشأن السياسي وجود «بلوك» مسيحي لا يمكن خرقه يتشكّل فجأة ولا يمكن القفز فوقه.
وهذا التموضع المسيحي العام ظهر جلياً في أزمة تأخير الساعة، وفعل فعله في رفض مرشح «حزب الله» لرئاسة الجمهورية رئيس تيار «المرده» سليمان فرنجية، وتصدّى لمشروع تعيين حاكم للمركزي في ظلّ غياب رئيس الجمهورية، ما دفع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلى التراجع عن فرضية التعيين التي كان رئيس مجلس النواب نبيه برّي من أبرز رعاتها.
ضغط البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي بقوة على ميقاتي في الأسبوع الماضي، ووصل الأمر إلى حدّ القول مباشرةً «لن نسكت على بدعة تشريع الضرورة وتعيينات الضرورة في ظلّ غياب رئيس للجمهورية»، وتواصل مباشرةً مع عدد من الوزراء، خصوصاً المسيحيين لثنيهم عن الإقدام على مثل هذه المخالفة، وقام بما يجب القيام به من أجل وقف انتهاك الدستور والتصرف وكأن البلاد تستطيع المضي بلا رئيس.
ومع الموقف الحازم للراعي ظهر توافق وتناغم مسيحي عريض ضدّ سلوك ميقاتي، ترجم برفض «القوات اللبنانية» تجاوزات حكومة تصريف الأعمال، إضافة إلى تقاطع بقية القوى المسيحية مثل «التيار الوطني الحرّ» والكتائب اللبنانية و»الأحرار» ومستقلين على رفض هكذا خطوة.
وأمام موجة الرفض المسيحي العارم، أعلن ميقاتي تراجعه عن إقدام حكومته على التعيين في ظل غياب رئيس للجمهورية. ومرّة جديدة يفعل الإجماع المسيحي فعله، فقضية إسقاط ترشيح فرنجية بـ»الفيتو» المسيحي وعدم وقوف نحو 55 نائباً مسيحياً في صفه، شكّل صفعة قوية لـ»حزب الله» وبري، وبالنتيجة لم يستطع «الثنائي الشيعي» فرض رأيه وخياراته.
يريح هذا الإجماع الجو العام المسيحي، لكن ما هو مؤكّد أنه يحصل من دون تنسيق مسبق، فلا توجد لجنة مشتركة بين الأحزاب، ولا يعقد الراعي اجتماعات في بكركي للأقطاب والقوى المسيحية، ويحصل هذا الرفض أو التوافق بشكل عفوي، وهذه من أبرز أسباب نجاحه وقوته.
وعلى رغم أنّ هذا الإجماع يفرض إيقاعه على الساحة الوطنية، تبقى المخاوف من عودة عقارب الساعة إلى الوراء وإنفجار الخلافات المسيحية، لكن ما يبدو ظاهراً حسب القوى المسيحية الأساسية، هو الإستمرار بمنطق رفض مرشح رئاسي بلا رضى بيئته، وبالتالي لا تغيير في موقف «التيار الوطني الحرّ» من مسألة إنتخاب فرنجية ولا تراجع، حيث يعتبر «التيار»هذا الأمر غير قابل للنقاش.
ومن جهة «القوات اللبنانية»، حُسم الموقف وهو الاتجاه الى مواجهة «حزب الله» ومشروعه، ورفض فرض رئيس حتى لو طال أمد الفراغ، فـ»القوات» تعمل على تحصين ساحتها ومستعدة لكل السيناريوات المقبلة.
وما ينطبق على الرئاسة ينطبق على الحاكمية، فالتهديد والوعيد لن ينفعا هذه المرة مع المسيحيين، وبالتالي سيبقى هذا التوافق العفوي يتحكّم بأسس اللعبة، إلى حين حصول متغيّرات ترضي المسيحيين.