IMLebanon

الحوار المسيحي: حد أدنى من التفاهم المصيري

أهمية الحوار المرتقب بين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع أنه يأتي في لحظة مصيرية. فهل يمكن أن يتفقا على الحد الأدنى من المواضيع الجوهرية الأساسية التي تمسّ الوجود المسيحي

تشكل لقاءات حزب الله وتيار المستقبل، التي انطلقت أخيراً، انعكاساً مباشراً لواقع العلاقات السنية ــــ الشيعية في منطقة الشرق الأوسط صعوداً أو هبوطاً. وتمثل بهذا المعنى حالة متصلة بالصراع بين الجانبين، من إيران الى السعودية ودول الخليج والشرق الأوسط، منذ أن بدأ يأخذ في التاريخ الحديث أشكالاً متنوعة.

لذا لا تتعامل أوساط سياسية مطلعة مع اللقاءات التي يعقدها الطرفان السني والشيعي، برعاية الرئيس نبيه بري، على أنها «حوار» لحل الخلاف الجذري بين الطرفين، بل على قاعدة أنها ترتيب أوضاع لها صلة بالعلاقة الإيرانية ــــ السعودية، لا أكثر. ولا تقلل هذه المقاربة من أهمية اللقاءات التي تهدف الى تخفيف التشنج بين جمهور الطرفين، اللذين يعيان جيداً أنهما غير قادرين على فكفكة العقد وحل الخلافات المتجذرة بينهما في لبنان وفي المنطقة، طالما أن الهوة التي تفصل بين مشروعين متناقضين كانت وستبقى كبيرة، وطالما أن هذه اللقاءات مثلها مثل تقاطع المصالح الحكومية والنيابية، يمكن أن تعقد أو تغيب وفقاً لبورصة العلاقة الإيرانية ــــ السعودية.

أما في المقلب المسيحي، حيث تمهد المحادثات التي تعقد بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية لعقد لقاء بين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، فيمكن الحديث عن حوار رغم أنه بدا عند انطلاقته وكأنه يصب في إطار الانفتاح بين المستقبل وحزب الله.

إلا أن لهذا الحوار خصوصية أخرى، مرتبطة أساساً بالعلاقة المزمنة بين الطرفين وبتاريخ الثنائيات المسيحية والمارونية التقليدية. فاللقاءات المسيحية الأخيرة حالة لبنانية داخلية مسيحية خالصة، تنفصل تماماً عن واقع المحادثات السنية ــــ الشيعية، ولا خلفية دولية أو إقليمية لها، ولا ارتباط لها بأي ارتدادات شرق أوسطية. وهي ليست المرة الأولى، وإن كانت الأكثر جدية، التي تعقد فيها. ولا يمكن، تالياً، الكلام على لقاءات فريدة تخرق المسار المسيحي العام، إذ إن التاريخ السياسي شهد منذ ما قبل استقلال لبنان، ثنائيات مسيحية ومارونية تقليدية وليس اصطفافاً بمعناه الحديث اليوم، بين الرئيسين بشارة الخوري وإميل إده، والرئيسين كميل شمعون وفؤاد شهاب والزعيمين بيار الجميل وريمون إده. وما معنى التجربتين الدستورية والكتلوية ومن ثم الشمعونية والشهابية والكتائبية والكتلة الوسطية، إن لم تكن انعكاساً لهذا التنوع المسيحي الداخلي الذي كان شاملاً لجهة الاختلاف في مقاربة المواضيع الداخلية والعلاقات الإقليمية والدولية، علماً بأن الصراعات الثنائية المسيحية حينها جرّت معها الأحزاب والشخصيات الإسلامية إليها، فتوزع المسلمون بين الطرفين، ما انعكس انقساماً سياسياً بين تيارات سياسية متنوعة في البلد. وعندما تدخلت القوى الإقليمية فيها انقلبت الصراعات حروباً وثورات كما حصل في محطات 1958 و1973 و1975 وهلم جراً.

اليوم يعكس الحوار المسيحي الداخلي جانباً أساسياً وحيوياً من هذا التنوع، رغم أن البعض ينظر إليه فقط بجزئه الدموي بين الطرفين. حتى في أقسى حالاتها، شكلت هذه الثنائية امتداداً للواقع المسيحي الذي يرفض الأحادية، بحسب ما تظهره الانتخابات النيابية التي حين تحصل، ينقسم فيها المسيحيون في تصويتهم بنسبة 50 ــــ 50 لصالح قياداتهم.

لكن المرحلة المصيرية التي يمر بها لبنان والمنطقة، تجعل من الضرورة التعامل مع هذا الحوار بأهمية مزدوجة، تتعلق بالمعايير التي يفترض بالطرفين المعنيين أخذها في الاعتبار، وبضرورة تحوله إلى حوار جدي يتناسب مع حجم التحديات التي تواجه المسيحيين، فلا يبقى شكلياً حكمته ظروف موضوعية فحسب. وحوار عون وجعجع لا يأتي في لحظة مصيرية تتعلق بلبنان والمنطقة فحسب، إنما أيضاً بالوجود المسيحي في كليهما، وهنا يكتسب أهميته والتعويل عليه إذا ما تمكن الرجلان من القفز فوق اعتبارات الماضي والحاضر، من أجل الوصول الى الحد الأدنى من التفاهم لا على قضايا ثانوية (كقضية المياومين)، إنما على بنود أساسية لها صلة بوجود المسيحيين المصيري ومشاركتهم في الحكم وفاعليتهم فيه. ويفترض بالزعيمين المسيحيين أن يرتقيا بخلافهما وحوارهما، من الترف السياسي التقليدي الى مجابهة حقيقية للمواضيع التي تمس جوهر الوجود المسيحي واللبناني على السواء.

وليس المطلوب من هذا اللقاء الاصطفاف السياسي بالمعنى التقليدي، لا في صياغة تحالفات أو خصومات مع أي طرف، إنما التفاهم على الحد الأدنى من المواضيع المصيرية المتعلقة بوجود المسيحيين ودورهم الحقيقي في السلطة، والتفتيش عن أفضل الطرق كي يكونوا شركاء أساسيين في حكم البلد لا أن يتحولوا إلى رعايا فيه، كما هي حال مسيحيي الشرق. فحتى الآن، كان التباعد شاملاً بين الطرفين في مواضيع أساسية وجوهرية؛ ومنها قانون الانتخاب والمشاركة في السلطة، كما هو خلافهما بطبيعة الحال حول رئاسة الجمهورية. لكن المطلوب اليوم أن يتخطى الحوار المرتقب اليوميات كي يصبح حواراً وجودياً منتجاً لا حواراً محدوداً بالزمان والمكان.

في المراحل المصيرية، تطرح القضايا الأساسية والثوابت، ومحك الحوار المسيحي بين عون وجعجع أن يقارب الخطر الداهم، ودقة المرحلة، فيحوّلان حوارهما إلى اتفاق ضروري على مواضيع أساسية، والتعاطي معها بما يتناسب وحجم الأخطار المحدقة، لأن في ذلك مصلحة المسيحيين ووجودهم، ومستقبل لبنان.