IMLebanon

آمال مسيحية… وخيبات وطنية

مشهدان متناقضان: الأوّل مسيحي والثاني وطني. فعلى المستوى المسيحي هناك حراك لافت تَظهّر باللقاء بين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع والذي يعلّق المسيحيون عليه آمالهم، واستُكمل بإعلان النائب سامي الجميل ترشّحه لرئاسة حزب الكتائب في خطوة واعدة بتجديد الدم الحزبي.

المشهد على المستوى الوطني مناقض تماماً للمشهد المسيحي، وإذا كان الحراك يعكس صورة الواقع المسيحي، فإنّ الشلل يجسّد حقيقة الواقع الوطني والذي يمتدّ الى كل نواحي الحياة الوطنية بدءاً من الفراغ الرئاسي المفتوح مروراً بالتعطيل المجلسي وصولاً إلى التجميد الحكومي مع أزمة التعيينات، ومن دون إغفال التحديات الكبرى التي تواجهها المؤسسة العسكرية في حماية الحدود وتوفير الاستقرار في الداخل في ظروف صعبة تتمثّل بغياب التوافق السياسي.

فالارتياح المسيحي الذي ظهر في الأيام الأخيرة يشكّل ردة فعل طبيعية على غياب شبكات الأمان الوطنية وحاجته لمظلّات مسيحية تبدّد مخاوفه وهواجسه على المصير في لحظة إقليمية متفجّرة وكلام متزايد عن التفتيت والتقسيم والفتنة.

وقد يقول قائل في هذا السياق إنّ المعطّل للرئاسة والمجلس والحكومة هو مسيحي مبدئياً، وانّ التضامن والحوار معه يعني تأييده وتشجيعه على التمادي في التعطيل، فيما يجب مواجهته لسببين: لأنه لا يفترض السكوت عن الخطأ ولا تغطيته والتغاضي عنه، ولعدم تحميل المسيحيين مسؤولية تعبيد الطريق أمام الذهاب نحو نظام جديد.

وفي المقابل هناك من يقول خلاف ذلك:

أولاً، الخلاف القواتي-العوني جُرِّب ولم يؤد إلى نتيجة. فالدكتور سمير جعجع الذي يأخذ عليه البعض اليوم عدم مواجهته للعماد عون يتجاهل عمداً أنّ العبور إلى الطائف كان عن طريق «القوات»، وأنّ العبور إلى ترجمة مفاعيل ١٤ آذار ٢٠٠٥ كان على حساب «القوات» التي بَدّت التحوّل السني نحو اللبننة على الاعتبارات المسيحية من منطلق انّ الوحدة الوطنية هي المعبر للسيادة، وأنّ الذي تصدى للنهج العوني منذ انتفاضة الاستقلال إلى أشهر خَلَت كانت «القوات».

ثانياً، الخلاف القواتي-العوني لم يغيِّر شيئاً في المعادلة نحو الأفضل، فلم يَحل دون التطبيق السيئ لاتفاق الطائف، ولم يُمكِّن 14 آذار من العبور إلى الدولة، بل أدى إلى مزيد من إضعاف المسيحيين.

ثالثاً، الشرذمة المسيحية أصبحت نتيجتها معروفة، وهي مزيد من إضعاف المسيحيين على مستوى الدولة، فيما وحدة الصف لم تجرّب منذ تفكّك «الجبهة اللبنانية» إبّان الحرب الأهلية.

رابعاً، لا أفق للحلول في المنطقة ولبنان، وبالتالي يمكن أن تطول الأزمة عقوداً إضافية، والمكوّن الأكثر تأثّراً بهذا الواقع غير المستقر هو المسيحي.

وانطلاقاً من ذلك، يعتبر أصحاب وجهة النظر أعلاه انه حان الوقت للفصل بين البُعدين السيادي والتمثيلي.

ولكن على رغم أنّ البعد السيادي يشكّل مفتاح عودة الدور المسيحي الطليعي، ويضمن بقاء المسيحيين وعدم هجرتهم، ويفرض أن تبقى الأولوية لهذا العنوان بعيدة عن الإحباط والملل، إلّا أنّ التجربة أظهرت أنّ التركيز حصراً على هذا العنوان أدى إلى تراجع دور المسيحيين وتأثيرهم.

وهنا يجب الإقرار أيضاً بحقيقة لم يعد بالإمكان تجاهلها وهي أنّ السيادة لم تعد تشكّل أولوية لدى نصف المسيحيين الذين انتقلت أولويّتهم إلى العنوان التمثيلي، وبالتالي هذا الانقلاب في المزاج السياسي لا يجوز القفز فوقه وعدم أخذه في الاعتبار، ما يعني أنّ تهميش البعد التمثيلي لمصلحة السيادي لم يعد جائزاً.

فما الضّير إذاً من تنظيم الخلاف حول البعد السيادي، والاتفاق على البعد التمثيلي، بحيث يبقى كل فريق ضمن اصطفافه الوطني، ومن دون أن ينعكس ذلك على التفاهم حول العناوين المسيحية؟

فلا اصطفاف مسيحياً مقابل اصطفاف إسلامي، ولا عودة إلى زمن الحرب الأهلية وما قبلها، خصوصاً أنّ طبيعة الصراع اليوم هي سنية-شيعية، ما يعني استمرار كل فريق مسيحي ضمن الاصطفاف الذي يجسّد ثوابته وقناعاته، مع فارق تحييد الملفات المسيحية-الوطنية عن هذا الصراع.

فلكلّ فريق مُطلق الحرية بالتعبير عن قناعاته في دور لبنان وحياده وعلاقاته الخارجية وسلاح «حزب الله» وبسط سلطة الدولة على كامل الأرض وغيرها من العناوين، وهذا التدبير لا يفترض أن يفسد في ودّ الاتفاق المسيحي-المسيحي قضية.

وقد حان الوقت لتحييد العناوين السيادية عن العناوين التمثيلية المتصلة بالرئاسة وقانون الانتخاب والحضور المسيحي داخل الإدارة وغيرها. ولا يفترض أن يستفزّ اتفاق من هذا النوع المسلمين الذين كانوا أوّل من دعا المسيحيين إلى الاتفاق على رئيس للجمهورية.

ولكن ما تجدر الإشارة إليه هو الآتي:

أولاً، من حق المسيحيين الطبيعي أن يتحالفوا انتخابياً من أجل إيصال أكبر عدد من النواب بأصواتهم، ولكن لا يحق لهم أن يفرضوا قانوناً انتخابياً على المسلمين، وايّ قانون من هذا النوع هو وليدة تفاهم وطني مسيحي-إسلامي.

ثانياً، من حق المسيحيين السّعي لانتخاب الرئيس التمثيلي أو القوي، ولكنهم لا يمكنهم أن يفرضوا على السنّة والشيعة مرشّحاً يرجّح كفة هذا الفريق على الآخر في ظل الصراع السني-الشيعي القائم، وبالتالي لا خيار أمامهم إلّا اختيار الشخصية التي تحظى بموافقة السنة والشيعة معاً.

ثالثاً، من حق المسيحيين الذهاب نحو وحدة صف مسيحية لإعادة الاعتبار للوزن المسيحي، ولكن من دون الانكفاء إلى المربّع المسيحي.

ويبقى السؤال أخيراً: ماذا لو انهار البلد، فهل يمكن للمسيحيين أن يحيّدوا أنفسهم عن هذا الانهيار؟ وألا يشكّل التعطيل المتمادي لكلّ المؤسسات مدخلاً لهذا الانهيار؟ وأين مصلحتهم في تقديم مفاتيح تغيير النظام للقوى التي تريد إطاحة الطائف؟

وإلى أيّ حد يخدم تصعيد الوزير جبران باسيل الحوار القواتي-العوني؟ وهل هذا التصعيد ضد هذا الحوار بالذات، خصوصاً انه ليس تصعيداً عادياً وحصل في اليوم التالي للقاء ومن منزل العماد عون نفسه وشكّل تجاوزاً للسقوف من خلال التهويل بالخروج من المؤسسات إلى الشارع؟

وهل هذا التهويل هدفه التلطّي بـ»القوات» واستغلال الحوار معها أم جَسّ نبضها لمعرفة مدى قدرتها على تحمّل هذا النوع من التصعيد من دون أن تعيد حساباتها، أم الهدف بكلّ بساطة التمهيد لإطاحة هذا الإنجاز المسيحي؟