Site icon IMLebanon

الجمهورية المسيحية اللبنانية

الجنرال ميشال عون في الشارع. ليست المرة الأولى، وقد لا تكون الأخيرة. من قبل، خاض حرب شوارع انطلاقاً من «قاعدة» بعبدا المارونية. خدم سياسته العسكرية وختمها منفياً في باريس. تمنطق بـ «الدولة» ودستورها وسيادتها وقرارها الحر ووحدة البندقية، وتسلّح بقبضة الحسم، ضد «خصومه» المسيحيين والمسلمين. أُخرج من المعركة بقوة «الشريك السوري» وشراكة «الخصم المسيحي» المتمثل آنذاك بـ «القوات اللبنانية». لم يوقع الجنرال على هزيمته. قال: تلك معركة. انتقل إلى المنفى، عاملاً للعودة، ثم عاد، وكـ «التسونامي» فاض عن حدوده… وحيداً، فاز على الكثرة ضده، سنة وشيعة ودروزاً ومسيحيين كذلك. فخشيه الجميع. عرفوا أن ما أخذ منه بالقوة، سيستعيده بصناديق الاقتراع.

هذه المرة، الجنرال في الشارع. الطريق إلى صناديق الاقتراع مقفل. لا قانون انتخابياً جديداً، تعيده صناديقه إلى برلمان، يضمن انتخابه رئيساً للجمهورية. الطريق إلى بعبدا مقفل أيضاً. إقليم الحرائق التهم حظوظه بالتوافق على اسمه. الإقليم محرقة كبرى، والرئاسة اللبنانية إلى ما بعد الرماد العربي الذي يرث الحرائق. الطريق إلى اليرزة مقفل كذلك. ممنوع على من يمتّ بصلة إلى الجنرال أن يكون في موقع القرار. صورته في المعارضة مستفزة، وذات قدرة على التعبئة الشعبوية. يقال عن الشعبوية إنها أم الغوغاء. وصورته في السلطة «مفزعة». الحوار معه يحتاج إلى لغة تشبهه ولا شبيه للجنرال في «طبقته» العسكرية وفي «رتبته» السياسية.

الجنرال في الشارع، فإلى أين بعد ذلك؟ إلى الخسارة أم إلى فراغ؟ أم إلى عجز عن ابتكار انسحاب؟ أم إلى جائزة ترضية؟ أم إلى تحسين شروط للمستقبل بلا ضمانات؟ أم إلى «ربح مسيحي» يعادل «أرباح المسلمين»؟ أم إقامة «التعادل الطائفي»، لاستحالة تحقيق «العدل بين الطوائف؟ أم…

قبله، تعرف الشارع في لبنان على عنوان «الشراكة». شكت السنية السياسية من الدونية والإلحاق. صوتها لا يسمع في مراكز القرار. اختارت الشارع مراراً. غضبها كان ملء الحناجر. رفضت حلف بغداد، في الشارع. ثارت على مشروع إيزنهاور في الشارع. حمت بندقية المقاومة في الشارع… الشارع مشروع كل من يُمنع عن المشاركة في صناعة القرارات. أن تكون في السلطة، لا يعني أن تكون بلا حضور فعلي ووزن مؤثر. السنة الذين انسلخوا عن «الأم السورية» ارتضوا البقاء فيه، على ألا تكون حصتهم بحجم «فتات الأيتام». فلا أصلهم العربي أو العروبي مقصر في أصالتهم الوطنية والقومية، ولا الديموغرافيا شحيحة. الخصوبة السكانية تؤهلهم لملء ندرة الولاءات لدى الطوائف المسيحية.

تأسيساً على سياسة حافة الهاوية في حروب الشوارع اللبنانية، طيلة 15 عاماً، نال السنة حصتهم في السلطة، فباتوا على رأس الشراكة. حصل ذلك بعد جنون طائفي واستفحال إقليمي واستضافة دولية في الطائف. تحقق ذلك بعد قتل وقتال وتقاتل في الشوارع. أعطى الطائف السنة مقام الفعل، واحتفظ المسيحيون بمقام الرمز.

وقبل الجنرال، نزل الشيعة إلى الشارع، بعنوان «الحرمان». أخذهم السيد موسى الصدر إلى صدارة التميز بالمظلومية. كانوا أعداداً ملحقة ببؤس الإلحاق والأتباع. قياداتهم التاريخية العائلية والإقطاعية لجمت طموحهم. بعد الصدر، عرفت الشيعية السياسية تمدداً في المشهد وحضوراً في مراكز الدولة. الثروة تدفقت، العلم دفع النخبة إلى طلب التعادل، الدعم جاءهم من مكان غير محسوب. وأضيف إلى هذه الأرصدة، تبني قسم منهم لقضية المقاومة والتحرير وفلسطين، فصاروا جزءاً من دعائم النظام، وجزءاً لا يشبه الدولة ولا النظام. الثنائية الشيعية كانت على قاعدة الاختصاص. «أمل» في الدولة والنظام و «حزب الله»، شريك للدولة، في مهمات كبيرة، ليس في قدرة الدولة على التنكّب لها.

الدروز انتقلوا من «نظام المتصرفية الصغير»، إلى «نظام المتصرفية الكبير». تغيرت ولاءاتهم، ولم تتغير حصتهم ولا تبدلت أرجحيتهم كأقلية وازنة، بقيادة جنبلاطية واحدة.

هذا اللبنان، بمواصفاته الذاتية، وبإضافاته الإقليمية، بلغ النهاية. لم يعد صالحاً للموارنة. العطالة أصابت مؤسساته. الأرجحية السنية في عطالة. الحكومة، مركز الثقل السني، مهددة بالضياع. الشيعية السياسية (لا المقاومة) في تعطيل. مجلس النواب المجدد له، ليس على قيد الحياة. الجيش موقع نزاع. الرئاسة في رتبة الاستحالة.

يحدث كل ذلك لأن الطائفية لا تشبع. ما تأخذه عنوة من فريق، لا ترده إلا عنوة. أخذت حقوق الطوائف في الشارع. لم تكتب النصوص إلا بعد خسارة النفوس في ميادين المواجهة. الجنرال اليوم، يتمسك بحزمة «حقوق» للمسيحيين، ولا إمكانية لتحقيقها. ما أخذ منه، في غفلة عنه، بالقوة، لا يسترد إلا بالقوة، من خلال اللجوء إلى الشارع. لكن حصاد القوة غير مؤكد.

الموارنة أخذوا لبنان حصة لهم، في حرب كسب فيها حلفاؤهم على السلطنة العثمانية السنية. السنة أخذوا حصتهم في المشاركة بدعم إقليمي بعد حروب. الشيعة استحوذوا على حصصهم بعد صعود إيراني حاسم و»مقاومة» دفعت دما… ماذا عند عون من قوة، غير قوة الغضب واعلاء الصوت والنزول إلى الشارع؟ من معه إقليميا؟ من معه دولياً؟ تقريباً لا أحد.

الجنرال في الشارع، فماذا بعد؟

أسئلة كثيرة تطرح. هل يلجأ إلى «عليَّ وعلى اعدائي». فيفرط الحكومة السلامية، ويصبح لبنان في عطالة وجودية. لا حكومة جديدة بسبب فقدان مرجعية قبول الاستقالة وإجراء الاستشارات النيابية وتكليف السني الجديد. لا مجلس نواب ينعقد من أجل قانون انتخابي جديد، مختلف عليه، خلافا لا حدود له. لا إمكانية لتسيير شؤون الناس…

هل يلجأ الجنرال إلى تحكيم الفراغ، ليلزم الجميع، في الداخل والخارج، إلى سماع الشكوى وإيجاد الحل؟ هل يصار الى ترحيم الطائف، ومن يفعل ذلك؟ هل يصار إلى مؤتمر تأسيسي جديد، والخلاف في أوجه، للاتفاق على لبنان آخر؟ هل يكون الهدف، والمنطقة مرشحة للتشكل اثنياً وطائفياً ومذهبياً، إلى تأمين شروط قيام «الجمهورية المسيحية اللبنانية» إلى جانب الكيان السني اللبناني في مواجهة الكيان الشيعي اللبناني؟ أم تكون نهاية الوجود المسيحي؟

قد يكون هذا الجنون باباً من أبواب التعقل، أو باباً من أبواب الجحيم. من يدري؟