الدعوة لاجتماع مسيحي في بكركي أكثر من ضرورية من أجل البحث في السبل الآيلة إلى إنقاذ الجمهورية وليس انتخاب رئيس للجمهورية، لأنّ الإنقاذ الذي أصبح بفعل الانهيار بمثابة الحياة والموت لا يتحقّق بانتخاب رئيس، إنما تحقيقه يشترط عدم انتخاب رئيس للجمهورية يُمدِّد الستاتيكو القائم.
ساهمت بكركي مساهمة أساسية في ثلاث محطات أساسية: نشوء لبنان الكبير، اتفاق الطائف وإخراج الجيش السوري من لبنان، ولكل محطة من هذه المحطات أسبابها الموجبة مسيحيّاً: وطن تعددي يجسِّد رسالتهم بالانفتاح على قاعدتي الحرية والمساواة ولديه المقومات الاقتصادية التي تجعله قابلاً للحياة؛ إنهاء الحرب سعياً إلى وقف النزف وإحياء دور الدولة التي شكّلت وتشكّل هدفاً أساسياً للمسيحيين الذين كانوا السبّاقين في المساهمة في إرساء أول دولة حديثة في الشرق؛ رفع الاحتلال السوري الذي عطّل الدور المسيحي الوطني وصادَر أحد أبرز أهدافهم بنهائية الكيان واستقلالية القرار اللبناني.
والمشترك في هذه المحطات هو الدولة: دولة الاستقلال الأول في العام 1943، دولة الشراكة في العام 1989، دولة الاستقلال الثاني في العام 2005، وقد انوَجد دائماً مَن ينسف هذه الدولة من أجل إبقاء لبنان ساحة للممانعة، الأمر الذي يحتِّم الدفع باتجاه محاولة رابعة سعياً لاستقلال ثالث ثابت ونهائي لا تُسقطه تبدلات إقليمية ولا تهزُّه مشاريع داخلية مرتبطة بأجندات خارجية.
وبعد ان انحدرت أوضاع البلد إلى أسفل القعر، من الخطأ ان ينحصر التفكير في انتخاب رئيس للجمهورية أقصى ما يستطيع فِعله مع رئيس الحكومة والحكومة فرملة الانهيار نسبيّاً من دون معالجة الأسباب الجوهرية للأزمة المتعلقة بالتغييب المتواصل للدولة، ولأنّ دور بكركي تاريخيا ما فوق سياسي، فهي مطالبة من اللبنانيين عموما والمسيحيين خصوصا بأنّ تلعب الدور الذي لعبته في الأعوام 1920 و1989 و2005 بالسعي لإنقاذ الجمهورية، والذي لا يتحقّق عن طريق انتخاب رئيس لجمهورية يُمسك «حزب الله» بقرارها ومفاصلها.
فالأزمة اللبنانية تجاوزت كل الحدود والسقوف، ولم يعد مسموحاً تمديدها بمعالجة القشور التي تمدِّدها فصولاً، إنما حان الوقت بعد أن انهار كل شيء الذهاب إلى معالجات جذرية لا انتخابية، وهذا الدور محصور بفريقين:
الفريق الأول، المعارضة: لو كان هناك معارضة جبهوية تُمهِل الموالاة بمدة زمنية قصيرة لعقد مؤتمر وطني وظيفته إنهاء الانقلاب على اتفاق الطائف، وفي حال رفض الفريق الممانع يمتنع الفريق المعارض عن المشاركة في كل ما يتصل بالدولة ويدعو إلى الإضراب والتظاهر والعصيان، أي اعتبار التغيير من داخل المؤسسات مستحيل وتوسُّل الشارع لخلق أمر واقع، ولكن المعارضة بتكوينها الحالي ليست جبهوية، ولن يكون بمقدورها الاتفاق على تصعيد من هذا القبيل علماً انه من الخطأ مواصلة التعاطي السياسي وفق طريقة business as usual، اي معارضة وموالاة وتداول سلطة، لأنه لا نوى من هذه الطريقة التي جُرِّبت وفشلت، وحان الوقت لمقاربة جديدة بعد 18 سنة من الانقسام وتغييب الدولة.
الفريق الثاني، بكركي: انطلاقاً من دورها المعنوي وصوتها المسموع لدى عواصم القرار وبإمكانها المبادرة في ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: ان يُعلن البطريرك استحالة الوصول إلى حلّ بالطرق الكلاسيكية المعهودة، وان يُغادر في جولة على عواصم القرار لينعى التركيبة اللبنانية ويجدِّد دعوته إلى مؤتمر دولي من دونه لا أمل بإنقاذ الوضع المتداعي.
الاتجاه الثاني: ان يوجِّه الدعوة إلى القوى المسيحية الممثلة في البرلمان من أجل التباحث في خطوة الامتناع عن المشاركة في مجلسي النواب والوزراء كشرط ملزم لعقد مؤتمر وطني.
الاتجاه الثالث: ان يتولى البطريرك قيادة المعارضة على طريقة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير وبعنوان واحد مؤتمر وطني لإنهاء الأزمة اللبنانية.
فالمطلوب من بكركي أكبر من رئاسة جمهورية لا تقدِّم ولا تؤخِّر في جمهورية مَمسوكة بمفاصلها الأساسية من «حزب الله»، ولا بل الإصرار على انتخابات رئاسية وسلطات دستورية يخدم الحزب الذي يريد هذه السلطات كونها تشكّل غطاءً لدوره وسلاحه، فيما الرهان على بكركي يكمن في قدرتها على الدفع باتجاه إنهاء هذا الوضع الشاذ على غرار مساهمتها بإنهاء الوجود العسكري السوري في لبنان.
والبطريرك الذي دعا إلى إعادة العمل بالحياد الذي كان أساس انطلاق الاستقلال الأول في العام 1943، كما دعا إلى مؤتمر دولي بسبب غياب القدرة على تطبيق الدستور، لا يمكن ان يوجِّه الدعوة إلى لقاء رباعي او نيابي مسيحي للاتفاق على رئيس للجمهورية بلا لون ولا طعم، لأنّ الانقسام بين المسيحيين كنتيجة للانقسام بين اللبنانيين لن يخرج عنه أكثر من رئيس «أبو ملحم»، وفي حال قرّر هذا الرئيس ممارسة دوره ومسؤولياته تتم مقاطعته والسعي إلى عزله.
وتُدرك بكركي جيداً انّ ظروف اليوم تختلف عن ظروف دعواتها السابقة لاجتماعات مسيحية عندما كان الرهان ما زال قائماً على التغيير من داخل المؤسسات، ويجب الإقرار انّ نتيجة هذه الاجتماعات كانت سلبية، ولا حاجة لتكرارها طالما انّ الانقسام من طبيعة وطنية لا طائفية، وطالما انّ الفريق المسيحي المُمانع قراره ليس ملكه، إنما ملك «حزب الله»، وطالما انّ هناك أزمة ثقة كبرى بعد تجربة كارثية، وطالما انّ مشهدية الاجتماع مرفوضة من المسيحيين واللبنانيين، وطالما ان لا وحدة موقف من القضايا الوطنية.
فما كان يجمع أحزاب الجبهة اللبنانية مثلاً هو تشخيصها المشترك للأزمة وموقفها الموحِّد من كيفية الخروج منها، فيما لا أهمية لاجتماع بين قوى مسيحية تختلف جذرياً على تشخيص الأزمة بين فريق مؤيّد لمشروع «حزب الله» وفريق ضد هذا المشروع، ويستحيل الاتفاق بين الفريقين على رئيس من هذا الفريق او ذاك، كما انّ اي رئيس على مسافة واحدة منهما يعني كالحكم من دون صفّارة.
فالرهان على بكركي يكمن في الدفع لحلّ الأزمة في جوهرها وليس انتخاب رئيس يمدِّد الأزمة بأوجه مختلفة، وبكركي قادرة على قيادة هذا التوجُّه الذي كانت أوّل مَن بادر إلى طرحه من خلال الدعوة إلى مؤتمر دولي، والدعوة لاجتماع مسيحي في بكركي يجب ان تكون بِبندٍ واحد وهو إنقاذ الجمهورية وليس انتخاب رئيس للجمهورية، والإنقاذ يتحقّق من خلال تعليق التعايش مع «حزب الله» وتركيبته السياسية والدفع نحو فرض أمر واقع سياسي يقود إمّا إلى الوصل على قاعدة اتفاق الطائف او إلى الفصل.
وما تقدّم هو ما تنتظره وما تريده الناس من بكركي كَونها تريد الخلاص من جهنّم، والناس لا تريد مشهديات مكررة ومرفوضة ونتيجتها تمديد الأزمة، إنما تريد حلاً جذرياً لهذه الأزمة الذي يتحقّق بالحؤول دون انتخاب رئيس للجمهورية.