تقول الأمثال إن النسيان طبيعة ثانية في الكائنات الحيّة. والإنسان كائن شاهد، برهن مع تراكم الأزمنة أنه يعتاد نسيان أكبر الهموم وأعزّ الناس.
هنا بالذات نقطة ارتكاز الخوف على لبنان وتركيبته من عامل النسيان، خصوصاً أن اللبنانيّين مشهورون بتفوّقهم في حقول التعوّد وبحور النسيان.
إلى درجة أن صاحب الكاريزما المميّزة والرؤيوي المثقَّف وليد جنبلاط اضطر إلى أن يبدي أسفه وهو يعلن في باريس “إننا تقريباً نسينا أن ثمة شغوراً رئاسياً في لبنان” مضى عليه ما مجموعه ثلاثمئة وستون يوماً. أي سنة إلا خمسة أيام.
وقد تجربنا القوى التي تحبس الاستحقاق الرئاسي في صندوقها السياسي، وتمدّد الشغور ليتكثّف معه النسيان والاعتياد، ويصبح عدم وجود رئيس للجمهوريّة في قصر بعبدا كأنه من تحصيل الحاصل. بل، كأنه أمر طبيعي.
هنا مكمن الخطورة التي لا تعيها “الأقليّة المسيحيّة”، وخصوصاً بفريقها الماروني المعني مباشرة بالرئاسة والاستحقاق والفراغ، و”بعض المنساقين” في الهوس والشهوة خلف طالب يد قصر بعبدا منذ نيّف وربع قرن.
وليد بك توقّف طويلاً عند هذا المفترق: نشهد خلافاً حاداً داخل الأقليّة المسيحيّة، وذلك على حساب مصالحها، فيما الأزمات والأحقاد بينهم تمنع فكّ الكوابح لانتخاب رئيس. من جهة الفريق المؤيِّد لـ”حزب الله” ومرشحه الجنرال عون، ومن جهة أخرى فريق سمير جعجع. والنتيجة أن سلبيّتين لا تصنعان رئيساً…
صحيح أن لبنان لم يغرق بعد في بحور الانتحارات الجماعيّة التي تجتاح معظم بلدان الشرق الأوسط، إلا أنه لا يستطيع الانفصال عن هذا الشرق وعن هذه البلدان. كما ليس في إمكانه الابتعاد عن الحروب التدميريّة وبحيرات الدماء في كل من سوريا والعراق وليبيا واليمن. وهذا ما يضاعف القلق من الخسارة الكبرى لدى الأقليّة المسيحيّة، المتلهّية بألاعيب تشريعيّة تؤدّي إلى “المنزلق الأخير” حيث يصبح النسيان ضرورة.
لذا ينبّهنا جنبلاط إلى أننا نعيش اليوم حروباً طائفيّة ومذهبيّة بين الشيعة والسنّة، إلى صراعات عرقيّة بين العرب والأكراد والفرس الذين استيقظوا حسب التوقيت الملائم، وطرداً جماعيّاً للمسيحيّين، وتصفية للأقليّات، ومستقبلاً غير مضمون في سوريا للعلويّين والدروز.
ليس المهمّ أن نتنبّه فقط إلى القوّة الفارسيّة التي هبّت في الشرق الأوسط “على حساب العرب أو ما تبقّى منهم”، إنما المهم والأهمّ لبنانيّاً استيقاظ الأقليّة المسيحيّة من رقدة العدم والعودة من “السباق مع رياح الفراغ” إلى أرض الواقع.
وليعلم الجميع أن انتخاب رئيس مسيحي في القريب العاجل هو “عمليّة مهمة في شرق أوسط مسلم” وفق نصيحة جنبلاط.