في الوقت الذي كان رئيس مجلس النواب نبيه برّي يُحاول تحضير الأرضيّة المناسبة لإنجاح الجلسة التشريعيّة التي طال إنتظارها، عبر وضع جدول أعمال يُرضي أكثر من طرف بهدف تأمين أوسع مشاركة ممكنة، توالى إعلان المواقف الرافضة للمُشاركة، حيث قرّر «تكتّل التغيير والإصلاح» في ختام إجتماعه الأسبوعي المقاطعة بحجّة عدم توفّر مكوّنات «تشريع الضرورة» في جدول أعمال الجلسة المُرتقبة، وأعلنت «القوات اللبنانيّة» على لسان أكثر من مسؤول فيها عدم المُشاركة أيضاً، وكذلك فعل حزب «الكتائب اللبنانيّة» الذي يُصرّ على أنّ مجلس النوّاب هو هيئة ناخبة وليس هيئة تشريعيّة، ما يستوجب أن يكون إنتخاب رئيس جديد للجمهورية البند الوحيد على أيّ جدول أعمال. ومع غياب الأحزاب المسيحيّة الثلاثة الكبرى تمّ سلفاً إسقاط ميثاقيّة أيّ جلسة قد تنعقد مستقبلاً.
ولفتت مصادر سياسيّة إلى أنّ مواقف الأحزاب المسيحيّة الرئيسة التي التقت على مقاطعة الجلسة التشريعيّة إنطلقت من مصالح وأهداف مُختلفة بعضها عن بعض. وأوضحت أنّ «التيّار الوطني الحّرّ» لم يعد يرغب بتسليف أيّ طرف أو جهة خدمات مجّانية، طالما أنّ مُختلف مَطالب «التيّار» مُهملة منذ سنوات، بدءاً بتصحيح الخلل في قانون الإنتخابات النيابية، وفي المحاسبة العامة، وفي التعيينات في الوظائف، مروراً بالتمديد مرّتين لمجلس النواب، وصولاً إلى عدم تبنّي معركة العماد ميشال عون بالنسبة إلى قيادة الجيش. وجاء رفض إدراج بند رفع سنّ التقاعد للعسكريّين، ليُمثّل النقطة التي أفاضت الكوب، خاصة أنّ هذا الرفض ترافق مع رفض لمطلب «عوني» آخر تمثّل في إرفاق بند منح الجنسيّة لمُستحقيها في جدول الأعمال. ويهدف «التيار الوطني الحرّ» من مقاطعته بحسب المصادر نفسها، إلى فرض وضع تعطيلي شامل يعمل على توسيعه، لتكون الفرصة مُؤاتية للشروع جدّياً في إيجاد الحلول للمشاكل العالقة، وكتحذير إستباقي على قُدرة «التيار» على الضغط بقوّة في حال التمديد للقادة الأمنيّين بعكس إرادته ومطالبته.
وأوضحت المصادر أنّ حزب «القوّات اللبنانيّة» يعتمد بدوره سياسة الضغط، حيث يُصرّ على إدراج مسألة إقرار قانون إنتخابي جديد في أيّ جلسة تشريعيّة، إنطلاقاً من رغبته في إعادة تكوين السلطة وفق معايير جديدة، خاصة أنّه يعتبر أنّ أيّ إنتخابات شاملة مُقبلة ستزيد من عدد نوّاب الحزب، وسيعيده بقوّة إلى أيّ حكومة في المُستقبل، إضافة إلى أنّ هذا المطلب يعكس إستقلاليّة «القوات» عن حلفائها، وفي طليعتهم «تيار المُستقبل» غير المُستعجل لأيّ إنتخابات جديدة. و«القوات» التي هي حالياً خارج السلطة التنفيذيّة، هي من بين الأكثر تضرّراً من حال الشلل السائدة في لبنان، وترغب بشدّة في إعادة تشكيل السلطة السياسيّة من رئاسة الجمهورية نزولاً. وتُطالب «القوّات» أيضاً بإدراج مشروع قانون المُوازنة للعام الحالي شرط أنّ تأخذ في الحُسبان مطالب «الحلفاء»، وشرط أن تتضمّن أيضاً سلسلة الرتب والرواتب للموظّفين العاملين في القطاع العام بحسب الصيغة المتوازنة مالياً، وذلك إستجابة لمطالب شرائح واسعة من المُجتمع.
وبالنسبة إلى حزب «الكتائب اللبنانيّة»، لفتت المصادر إلى أنّه يستند في مقاطعته إلى مُبرّرات قانونيّة مبدئيّة، علماً أنّه يُحاول من خلال خطوة المقاطعة المتخذة سلفاً إظهار إستقلاليّته عن تأثير التحالفات، وتمايزه عن باقي الأفرقاء السياسيّين، أكانوا ضمن تحالف «8 آذار» أو تحالف «14 آذار» أو حتى من المستقلّين.
حتى أنّ الأطراف المسيحيّة الأخرى، وفي طليعتها «تيّار المردة» والأحزاب الأرمنيّة، فهي غير مُتحمّسة للجلسة التشريعيّة إذا كان سيتمّ مُقاطعتها من نحو 30 نائباً مسيحيّاً، وتعمل من اليوم على إخراج صيغة لعدم مشاركتها، بحيث لا تخرج تماماً عن الإجماع المسيحي الواسع، ولا تُفسد في الوقت عينه علاقاتها مع باقي القوى السياسيّة المؤيّدة لعقد الجلسة، بحسب المصادر السياسيّة نفسها.
وبناء على ما سبق، تابعت هذه المصادر، من المُرشّح أن يستمرّ حال الجمود، وحتى الشلل، على المستوى السياسي الداخلي العام، بحيث لا تشريع لأيّ قوانين جديدة في المدى المنظور، ولا إتفاق على الموازنة للخروج من دوّامة الإنفاق من دون مُراقبة، وهي ظاهرة غير صحّية مُستمرّة منذ عقد من الزمن، ولا إتفاق على تمرير السلسلة في ظلّ بقاء المواقف السابقة والخلافات المعروفة على ما هي عليه.
ونبّهت الأوساط السياسيّة نفسها إلى أنّ الوضع اللبناني يحتمل عرقلة من هنا، وشللاً من هناك، لكن مع تفشّي ظاهرة المقاطعة، وظاهرة شلّ المؤسّسات، فإنّ الأمور بلغت عُنق الزجاجة. وبالتالي إنّ من شأن إضافة أيّ أزمة جديدة أن يؤدّي إلى إنفجار الوضع السياسي برمّته. ولفتت الأوساط السياسية نفسها إلى أنّ مُختلف القوى السياسيّة تعلم ذلك علم اليقين، لكنّها مُتمسّكة بمواقفها إلى درجة العناد، إنطلاقاً من الصراع السياسي القائم ومن التوازنات السلبيّة التي تفرض نفسها في لبنان والمنطقة إلى حد بعيد. وأضافت أنّ مسألة التمديد للقيادات الأمنيّة قد تُشكّل الشرارة التي ستُفجّر الأمور برمّتها، حيث يُراهن البعض على أنّ الحل للوضع الراهن يتمثّل في تطبيق المثل اللبناني العامي القائل «إذا ما كبرت… ما بتصغر!»، مُحذرة من أنّ الحل لكل المشاكل دفعة واحدة ليس مضموناً، لا بل إنّه مُستبعد في الظروف الراهنة، ما يعني أنّ دفع الأمور إلى تجاوز عُنق الزجاجة، قد يؤدّي إلى تطبيق مثال لبناني عامي آخر هو «مش كل مرّة بتسلم الجرّة!».