كما كان متوقعاً، منسوب الاحتقان الطائفي إلى ارتفاع. فغالبية القوى المسلمة تقترب من التوافق حول العديد من الاستحقاقات الداهمة. وفي المقابل، غالبية القوى المسيحية تمارس منطق الرفض وتتوقف عنده. فإلى أين؟
تتقاطع القوى المسيحية اليوم على 3 لاءات: رفض المرشح المدعوم من الثنائي الشيعي الوزير السابق سليمان فرنجية، رفض جلسات الرقابة والتشريع بعدما تحوَّل المجلس النيابي هيئةً ناخبة، ورفض انعقاد مجلس الوزراء في وضعية تصريف الأعمال والفراغ الرئاسي.
فوق ذلك، تجتمع القوى المسيحية على العديد من المسائل، ولاسيما في ما يتعلق بالتشكيلات والتعيينات الآتية، ومنها موظفو الفئة الأولى، والعديد من الملفات السياسية والإدارية والقضائية والأمنية والإنمائية والمالية. وثمة مَن يقول: لا يمكن الاستهانة بهذا الحجم من التقاطع بين القوى المسيحية حول الملفات الأساسية الساخنة. ويمكن البناء عليه لتغيير توازنات القوى القائمة وحسم العديد من المسائل العالقة.
ولكن، من المثير أنّ هذه القوى التي يجمعها هذا المقدار من الرفض والاعتراض، لا تتوافق على الملف الأساسي الذي يهمّ المسيحيين حالياً، أي رئاسة الجمهورية. وهنا يكمن تحديداً مأزق بكركي التي سحبت يدها من مساعي التوافق المسيحية قبل سنوات، بعدما أيقنت أنّها عبثية.
اليوم، وصل الملف الرئاسي إلى المأزق الكامل. فالقوى غير المسيحية، التي تمتلك قوة اتخاذ القرار واقعياً، تطرح مرشحاً واحداً هو فرنجية. وأما القوى المسيحية، الفاقدة للقوة واقعياً، فترفض هذا الخيار، على اختلافاتها ونزاعاتها.
ولكن، لا القوى المسلمة تجرؤ على تحدّي الغالبية المسيحية وانتخاب رئيس يرفضه المسيحيون، ولا القوى المسيحية قادرة على تحقيق معجزة التوافق في ما بينها. ويبدو المخرج الأقرب هو أن تنجح القوى المسلمة في خرق الرفض المسيحي باجتذاب أحد الطرفين الأساسيين «التيار الوطني الحر» أو «القوات اللبنانية».
ولذلك، يسعى «حزب الله» إلى إقناع فرنجية والنائب جبران باسيل بالتوافق على ترشيح موحَّد. ومن جهته، يسعى الرئيس نبيه بري إلى إقناع «القوات اللبنانية» بتأمين «النصاب الميثاقي» للجلسة، على الأقل. ولكن، منطقياً، يُفترض أن تتوافر الميثاقية في الأصوات المسيحية التي سينالها الرئيس المقبل لا في عدد النواب المسيحيين الذين سيشاركون في الجلسة.
وفي تقدير المطلعين أنّ القوى المسلمة بدأت، بعد شهر من الفراغ الرئاسي، مرحلةً جديدة من الضغط في اتجاه القوى المسيحية عموماً: بكركي، «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» وسواها، بهدف الحصول على تغطية ميثاقية للرئيس العتيد. وهي تعتمد مع كل من هذه القوى تكتيكاً مناسباً.
وخلاصة الاتجاه في هذه المرحلة هو الآتي: إذا لم يكن المسيحيون مستعدين للتنازل والقبول بخيارات «واقعية» في موقع الرئاسة، فإنّ القوى الأخرى ستتجاوز موقع الرئاسة وتدير البلد من دونه. وهي تمتلك المبررات والذرائع ما يكفي للقيام بذلك.
وفي الدستور مواد تتحمَّل الاجتهاد والتأويل، ويمكن الاستعانة بها لتحريك العمل التشريعي والرقابي في ظلّ الفراغ الرئاسي، كما يمكن للحكومة أن تتوسّع في استخدام منطق صلاحيات الضرورة إلى حدود يصعب ضبطها، خصوصاً مع تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى حدود أكثر خطراً. وأساساً، باتت النصوص في لبنان حبراً على ورق، والدستور وجهة نظر. ولطالما ارتضت القوى السياسية جميعاً بهذا الخلل في الممارسة.
وعلى الأرجح، بدأت القوى المسلمة توجيه «الإنذارات» بتحريك العمل في المجلس والحكومة، لدفع القوى المسيحية إلى التنازل عن سقوفها العالية. فكلام الرئيس بري على جلسة رقابية أو تشريعية سيعقدها المجلس الأيام المقبلة هو جزء من عملية الضغط للسير بخيار فرنجية أو أي خيار آخر يحظى بالتوافق. وكذلك، إعلان الرئيس نجيب ميقاتي التوجّه إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء.
وفي المرحلة الأولى، سيقتصر الأمر على توجيه «الإنذار»، ولكن، لاحقاً، سيتحرّك المجلس النيابي والحكومة فعلياً بمعزل عن وجود رئيس للجمهورية. وهذه الصيغة ستضع القوى المسيحية في مأزق صعب: إما أن يُدار البلد من دون مشاركتها، وفي غياب موقع رئيس الجمهورية، وإما الرضوخ لخيار الرئيس المقبول «واقعياً». وفي المبدأ، هذا الرئيس يُفترض أن يكون حليفاً لـ«حزب الله»، أو يحظى بثقته.
ماذا ستفعل القوى المسيحية إزاء هذا التحدّي؟
يخشى مرجع مسيحي أن تقود هذه المعطيات إلى ضياع الموقع الرئاسي بفعل الاهتراء وعامل الوقت، ومعه يضيع العديد من أوراق القوة المسيحية في السلطة والنظام. وقد يكتشف المسيحيون أنّ المسؤول عن هذا الضياع ليس القوى المسلمة بل هو هوس بعض قادة المسيحيين بالسلطة والغنائم.