IMLebanon

حرد مسيحي من باريس: لسنا مواطنين درجة ثانية

   

 

تتصرّف القوى المسيحية على تنوّعها على أنّ باريس تتبرّأ من المسيحيين – الموارنة، في تسويقها تسوية خارجة عن إرادتهم، وإصرارها على تخطّيهم مجتمعين يعكس سياسة محور لم تعتدها باريس

 

سيمرّ وقت طويل قبل أن تنتظم مجدداً علاقات القوى المسيحية وبكركي مع فرنسا. ما كان صعباً تخيّله بين مسيحيّي لبنان وموارنته وبين باريس، أصبح أمراً واقعاً منذ أشهر، ولم تبدأ الدوائر المعنية في فرنسا التعامل مع حساسيته إلا أخيراً، لكن من دون حماسة. إذ لا يزال فريق الإليزيه يتصرّف مع القوى المسيحية على أنها «درجة ثانية» في التراتبية التي تعوّل عليها لتسويق وصول مرشحها رئيس تيار المردة سليمان فرنجية الى القصر الجمهوري، علماً أن القوى المسيحية وبكركي على السواء تأخّرت في التقاط الفرصة منذ بداية المسعى الفرنسي لكبح جماحه، قبل أن يصبح ترشيح فرنجيّة أمراً واقعاً بدفع من الرئيس نبيه بري، رغم أن أولى الإشارات على هذا التحوّل بدأت منذ ما بعد انفجار المرفأ بعدما ذهبت الاندفاعة العاطفية لماكرون لتصبّ في اتجاه آخر.

 

كان تعويل هذه القوى على أن الخلاف المزمن بين الإليزيه والخارجية الفرنسية حول سياسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وفريقه في لبنان سيُحسم لمصلحة الخارجية كما يفترض، علماً أن ما تمثّله السفيرة الفرنسية آن غريو بعلاقتها المباشرة بفريق الإليزيه، رغم تبريرات غير مقنعة تقدّمها لقيادات مسيحية عن دورها «المحدود» في التسوية المقترحة، فاقم من تأثيرات التسوية كما النظرة السلبية تجاه الإليزيه، وجعل من المستبعد إعادة تنظيم العلاقة بين الطرفين، من دون أن ننسى أن القيادات المسيحية باتت تفتقد أيضاً شخصيات فرنسية كانت تؤدّي عادة دوراً في نقل وجهات نظرها، حتى من دون العبور بقنوات رسمية، وهو أمر اعتادته في كثير من أزماتها، كوزراء خارجية ودبلوماسيين ومثقفين وصحافيين كانوا أكثر انحيازاً الى الخط المناوئ لما تمثّله التسوية المقترحة. ولعلّ آخر مثال على ذلك هو النائب السابق فرنسوا ليوتار الذي غاب أخيراً، ونعاه لبنانيون على صلة بدوره في مراحل حساسة. هذا الأمر بات غائباً على أكثر من مستوى، وتتحمّل مسؤوليّته القوى المسيحية نفسها التي فضّلت، في مراحل سابقة، خيارات إقليمية لها تأثير مباشر على لبنان أكثر من الرهان على تفعيل صلاتها بمراكز القرار الفرنسي. وهي اليوم تعوّل على هذه الخيارات كذلك في التعامل مع باريس لوقف اندفاعتها، لأن لدى هذه الدول ما يمكن أن تقدمه لباريس في المقابل، وخصوصاً في الشق الاقتصادي والمالي.

 

عدا عن قداس ثاني عيد الفصح الذي تقيمه بكركي على نية فرنسا، وهو تقليد فقد منذ زمن الغرض منه، لم يعد هناك الكثير سياسياً ممّا يجمع باريس والموارنة. ولم تعد اللغة الفرنسية وحدها كفيلة بإبقاء الجاذبية لدى شرائح سياسية، لأن الأشهر الأخيرة كسرت بعض المحرّمات في التعامل مع باريس على أنها تمثّل مصالحها أولاً ومصالح إيران ثانياً. ورغم أن باريس ظلّلت تسوية الرئيس ميشال عون والرئيس سعد الحريري، إلا أن وجود تفاهم ماروني بين التيار والقوات ومباركة بكركي خفّفا من وطأة الدور الفرنسي حتى على أقسى المعترضين على التسوية السابقة.

اليوم انكسر البروتوكول في التعامل مع باريس. فقد عبّر الكلام غير الدبلوماسي لرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع بوضوح عن نظرة جديدة في الأسلوب والمضمون حول سياسة فرنسية في لبنان تقوم على الانحياز الى طرف على حساب آخر. وهذه من المرات النادرة التي تُستهدف فيها باريس بهذا الشكل. فما يقال في صالونات بكركي حيال باريس يحتمل أحياناً تأويلات نظراً الى أن بكركي تحاول مراعاة الشكل في التعامل دبلوماسياً مع باريس. وفي الوقت نفسه، تعمل كذلك على توجيه رسائل صريحة حول إصرار باريس على تخطّي القوى المسيحية، في محاولتها العمل على خط السعودية إقليمياً، لإقناع حلفائها المسيحيين، وبعض الأصوات المحلية، بالتصويت لمصلحة التسوية المقترحة. وهي بذلك تصرّ على استبعاد القوى المسيحية الأكثر تمثيلاً في رفضها لمجيء فرنجية، ما يعني أنها مستمرة في سياسة تبدو بالنسبة الى بكركي خارج السياق التاريخي للعلاقة بينهما، من دون الأخذ بهواجس الصرح وتحذيراته، علماً أن مشكلة بكركي أنها كانت أقرب الى خيارات باريس الحالية، ولا سيما في المرحلة التي استخدمت فيها فرنسا نفوذها في الفاتيكان للتأثير على بعض الدوائر الدبلوماسية فيه. قبل أن تنشط القوى المسيحية في اتّجاه الكرسي البابوي، كما يجري حالياً لإحداث بعض الفرق في السياسة الفاتيكانية الخارجية.

 

ثمّة اقتناع لدى قوى مسيحية بأنّ باريس ستكون عاجلاً أمام اختبار إعلان وصول مقترحها الى طريق مسدود، وبعض هذه القوى يعوّل على تحرك «فرنسيّي بيروت» في باريس، وعلى الفشل المتكرر لسياسة ماكرون الخارجية ولبنان جزء منها، لكنّ هناك اقتناعاً بأن ذلك كله لم يعد كافياً، لأنّ الرهان الأهمّ قد يكون على دور الرياض وواشنطن في فرملة السياسة الفرنسية، كما على دور فاتيكاني يسعى الى إعادة تصويب البوصلة الفرنسية. وفي كل الأحوال، فقدت القوى المسيحية الثقة بإدارة الرئيس الفرنسي، وسيتطلّب إصلاحها وقتاً، حتى لو فشلت تسوية فرنجية رئيساً للجمهورية. إلا إذا كانت باريس حسمت خيارها فعلياً، بما يتعدّى التسوية الرئاسية، لمصلحة ما تعتبره أمراً واقعاً مربحاً على المدى الطويل قادراً على أن يقدّم لها فعلياً حماية مصالحها. فهل يملك المسيحيون والموارنة فعلياً ما يمكن أن يقدموه لها؟