لا يلتقي أركان القوى الحزبية المسيحية إلّا على مصيبة او لحلّ خلافات سياسية تتناول مواضيع وطنية كبرى، او حول مواضيع إجرائية لها علاقة بإدارة الدولة، وهي خلافات تاريخية تعود لما قبل الحلف الثلاثي (شمعون – الجميّل – إده) وما بعده، وصولاً الى الخلافات الحالية حول الانتخابات الرئاسية والمشاركة في الحكومة والموقف من العلاقة مع «حزب الله»، مروراً بمرحلة الحرب الاهلية التي شهدت حروباً ضارية بين «الاخوة الاعداء».
إنعقد أمس في بكركي اجتماع للقوى المسيحية، ليس هو الاول ولن يكون الاخير طالما المواقف متباعدة حول العديد من القضايا الكبرى والصغرى، فطالما جَمعت بكركي «الاخوة الاعداء» وكانوا يتفقون على أمر لكنهم سرعان ما ينقضونه، تبعاً لحسابات كل طرف. الحسابات السياسية والانتخابية والحزبية والشعبوية بحسب شعار المرحلة، ولطالما اختلفت المراحل في لبنان منذ تأسيسه فاختلفت الشعارات، وطالما كانت الخلافات والاقتتالات بالسلاح تحصل تحت شعار حماية المسيحيين او ضمان مشاركتهم في الحكم بشكل كافٍ ومتساوٍ مع الطوائف الاخرى، لكن طالما كانت كرسي الرئاسة الاولى موضع خلاف حول من يجلس عليها، وحول كيف سيُديرها ومدى علاقته مع الاطراف الاخرى والشركاء الآخرين في الوطن، لا سيما مع رئيس الحكومة، سواء قبل اتفاق الطائف او بعده.
قلّة قليلة من القوى المسيحية نأت بنفسها عن خلافات الاحزاب الكبرى، بل حاولت اصلاح ذات البين، وهي كانت بمثابة صمّام الامان للمجتمع المسيحي الذي كان يلجأ اليها وقت الانقسام والاقتتال، ومن هذه القوى بيت نائب رئيس مجلس الوزراء الراحل ميشال المر والراحل شاكر ابو سليمان من خلال الرابطة المارونية وقتها، وغيرهما من فعاليات كانت ترى في الانقسام المسيحي اللبناني خطراً على مسيحيي لبنان والمشرق. وكانت هذه القوى تُوَفّق تارة وتفشل تارة اخرى نتيجة التعنّت والتمسك بالمصالح.
وبغضّ النظر عن الماضي المرير خلال السنوات الاربعين الماضية، يبدو ان التاريخ يعيد نفسه، لكن هذه المرة يدور «الاقتتال» عبر الشاشات والبيانات بدل المدفع والرصاص. صحيح انّ القوى السياسية الاخرى الاسلامية اقتتلت فيما بينها ايضاً، لكنها عملت بعد مرحلة الاقتتال على تمتين تحالفاتها وتسوية علاقتها وضبطت الخلاف السياسي بينها ضمن سقف الحوار والتوافق ونجحت فيه كما هو حاصل منذ سنوات حتى الآن، وبالتحديد منذ تطبيق اتفاق الطائف ودخول البلاد مراحل سياسية هادئة بشكلٍ عام لولا بعض الانتكاسات التي تم تجازوها. لكن معظم القوى المسيحية واظَبت على التمايز بالخلافات، فتارة تعقد تفاهمات تكون غالباً موضعية آنية في ظرف سياسي معين ولهدف معين، وطوراً تعقد مجالس حروب سياسية تخطّط فيها لكيفية تدمير الطرف الاخر.
على هذا، من الصعب الرهان على استمرارية ما خرجت به «وثيقة بكركي» أمس من تفاهم على عناوين عامة، هي اصلاً موضع خلاف وطني عام وكانت وستبقى موضع خلاف مسيحي، لا سيما لجهة العلاقة مع «حزب الله» والنظرة الى سلاح المقاومة وكيفية تحرير الارض التي تحتلها اسرائيل منذ العام 1967 وما بعده من اعوام، قضَمَت خلالها اسرائيل الكثير من الاراضي والمياه اللبنانية. فكيف يكون الحال في هذا الظرف حيث لبنان منقسم حول كيفية التعامل مع الحرب على غزة وانعكاسها على لبنان في جبهة الجنوب المساندة لغزة؟.
في جوهر الوثيقة لا خلاف بين القوى السياسية المسيحية والاسلامية وتلك التي تتخذ صفة الوطنية غير الطائفية او المذهبية، حول نهائية كيان لبنان ووحدة ارضه ومؤسساته والعيش الواحد والتعددية فيه. ولا خلاف حول مقاربة موضوع حق الفلسطينيين بالعودة الى بلادهم وإنشاء دولتهم المستقلة ورفض توطينهم، وموضوع عودة النازحين السوريين، نظراً لِما يشكّله هذان الموضوعان من مخاطر على لبنان ديموغرافياً وسياسياً واقتصادياً وامنياً، لكنّ الاختلاف ظهر في بعض مقاطع الوثيقة حول موضوع الصراع مع اسرائيل وأحقيّة سلاح المقاومة من عدمه.
امّا ما تسرّب عن توافق على مبادىء اخرى، مثل «مكافحة الفساد ورفض تأخير الاصلاحات المطلوبة، ومبدأ اللامركزية الادارية»، فليسمحوا لنا، فكلهم «دافنِينو سَوا»، سواء خلال عمل كل الاطراف في المجلس النيابي او مجلس الوزراء أيام الوفاق والتفاهمات وحتى بعد انفراطها.
ثمّة ثابتة لا بد ان يقتنع بها كل اركان القوى المسيحية، وهي انّ توافقهم وتفاهمهم المُستدام يحميهم ويحمي كل المسيحيين ويحمي لبنان الكيان والجغرافيا والمجتمع والدولة. واستمرار خلافاتهم هو علّة العلل في لبنان، عدا العلل الاخرى المقدور على حلها، ووجودهم هو قيمة مضافة نوعية للبنان ومن دون المسيحيين لا معنى لوجود لبنان. وما لم يتفق المسيحيون على موقف رجل واحد سيبقى ما يسمّونه «المجتمع المسيحي» منقسماً ومتوتراً وقابلاً للإنفجار من داخله، بحيث لن يبقى شاب وشابة مسيحية إلّا ويفكر بالهجرة تاركاً مسؤوليه يتخبّطون في مشكلاتهم وأزمتهم.