IMLebanon

أيّ دور للمسيحيين؟

 

 

شكلت المساحة الممتدة من إعلان لبنان الكبير إلى الاستقلال فترة اختبار لمجموعات تتفاعل بين بعضها تحت سقف مرحلة جديدة وجغرافيا مختلفة، وهذا الاختبار كان وراء إعلان الحياد كشرط لاستقرار الجمهورية.

يتفوّق الحياد في لبنان على السيادة، لأن الأخيرة لم تنتهك إلا عندما سقط الحياد، والمرحلة الذهبية للبنان كانت بسبب الالتزام بالمعادلة الشهيرة «لا للشرق ولا للغرب» التي أبقت هذا البلد في منأى عن صراع المحاور، ولكن اتفاق القاهرة في العام 1969 أسقط اتفاقية الهدنة الموقعة في العام 1949 وأسقط معها الحياد والدولة والسيادة والاستقرار.

 

وما يجب التمهيد له هو ان الحياد كان ثمرة اتفاق بين المسيحيين والمسلمين، وان سقوطه حصل من الداخل لا من الخارج، وان هذا السقوط فتح الباب أمام الخارج للدخول إلى لبنان، وهذا التمهيد يستدعي طرح ثلاثة تساؤلات أساسية: هل أخطأ المسيحيون بتمسّكهم بالحياد؟ هل يمكن إعادة العمل بهذا المبدأ؟ وهل من خيارات أخرى أمام المسيحيين؟

 

أظهر الحياد انه وصفة ملازمة للمجتمعات التعددية، ووصفة ضرورية للجسم اللبناني ومن دونه يدخل هذا الجسم إلى غرفة العناية الفائقة، وبالتالي تمسُّك المسيحيين بالحياد كان في محله من أجل إنجاح التجربة اللبنانية، هذه التجربة النموذجية التي سقطت مع سقوط الحياد والتي لا يمكن إنعاشها وإعادة الاعتبار لها ما لم يعد العمل بالحياد، ولكن هل هذا الأمر ممكن؟

 

إن كل الكلام عن دولة فعلية وسيادة واستقرار وازدهار هو كلام «فاضي» ما لم يطبّق الحياد، ولكن هذا الحياد لن يطبّق، ويجب التعامل مع هذه المسألة على هذا الأساس والكفّ عن مطالبات سقطت منذ 55 عاما، وأي مسألة في الحياة تبقى أكثر من نصف قرن في موت سريري من الخطيئة التفكير بإحيائها، إنما من الضروري والواجب التفكير بالبدائل المتاحة والممكنة.

 

فكيف يمكن او يعقل ان يكون هناك على أرض واحدة جهة لديها تحالفاتها الإقليمية التي تجعل لبنان جزءا من محور، وهناك جهة أخرى تتمسك بالحياد، فتصبح الجهة الأخيرة في موقف ضعف مقارنة مع الأولى التي لديها تحالفات عملية وفعلية على مستوى المنطقة، وبالتالي إمّا ان يلتزم الجميع بالحياد، وإما لا التزام من أحد، خصوصا ان الفريق السياسي الذي يستقوي بتحالفاته الإقليمية يريد من الفريق الآخر ان يواصل تمسكه بالحياد، لأن إبرامه تحالفات خارجية يؤدي إلى نشوء ميزان قوى لا يناسبه ولا يريده؟

 

والمطالبة بالحياد هي كالمطالبة بتسليم «حزب الله» سلاحه وهو ليس في هذا الوارد، وما لم يسلِّم سلاحه فيعني ان إحياء الحياد غير ممكن، لأن الحزب يرتبط عضويا بإيران ويشكل جزءا لا يتجزأ من محور. وبالتالي المطالبة بالحياد مضيعة للوقت، وبما ان هذه المطالبة مسيحية بالأساس والجوهر، وبما ان تحقيقها مستحيل، فعلى المسيحيين البحث عن الدور الكفيل بربطهم بمحاور دولية وإقليمية ومن دونها سيستمرون في رد الفعل وانتظار التطورات التي تعيد الإحياء المستحيل لمعادلة العام 1943، ولكن الانتظار طال كثيرا، ويمكن ان يطول أكثر لأنه قائم على الصمود بانتظار ان تأتي الأحداث التي تخدم استراتيجيتهم، وقد لا تأتي.

 

ويمكن الحديث في العقود الأخيرة عن ثلاثة أدوار داخل البيئة المسيحية:

 

الدور الأول: الإصرار على الميثاق والشراكة والعيش معاً والدستور والدولة والقرارات الدولية، واعتبار أصحاب وجهة النظر هذه من المسيحيين ان التمسُّك بهذه الثوابت يشكل الضمانة للدور المسيحي القادر على إرساء نموذج تعايشي على مستويي السلطة والمجتمع بين المسيحيين والمسلمين وغير موجود في أي دولة في العالم، ويشكل مصلحة للمسيحيين وبالقدر نفسه للمسلمين لجهة إسقاطهم محاولات الشيطنة وصعود الكلام عن الإسلاموفوبيا.

 

الدور الثاني: التحالف مع إسرائيل لإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، ولكن هذا الدور انتهى مع اغتيال الرئيس بشير الجميل.

الدور الثالث: التحالف مع النظام السوري ومن ثم مع «حزب الله» لضمان الوجود المسيحي، ولكن نقطة ضعف هذا التحالف انه من طبيعة سلطوية وجعل لبنان ملحقاً بمحور الممانعة ولم يشكل الضمانة المطلوبة للمسيحيين، فاستمرت الهجرة وتضاعف القلق الوجودي.

 

وقد أظهرت التطورات في العقود الأخيرة ان هذه الأدوار لم تبدِّد هواجس المسيحيين الوجودية، فلا الدور الرسالة أدّى إلى قيام دولة فعلية، ولا الدور التحالفي مع تل أبيب حقّق أهدافه باستعادة لبنان مقوماته السيادية، ولا الدور التحالفي مع محور الممانعة بشِقّيه السوري والإيراني أدى إلى تطمين المسيحيين حيال حاضرهم ومستقبلهم داخل بيئة مستقرة ومزدهرة توقف الهجرة وتفتح باب الهجرة المعاكسة، ما يعني ان المطلوب التفكير بمقاربة مختلفة.

 

ولأنه يستحيل ضمان استمرارية الوجود المسيحي بمعزل عن الدور الذي يشكل الضامن الأساس للوجود، ولأنّ كل فلسفة الكنيسة من خلال جمهورية 1920 كانت بهدف إنهاء المعاناة المسيحية التاريخية عن طريق إيجاد وطن يضمن استمراريتهم ويوقف اضطهادهم، ولأنّ كل النضال التاريخي والمستمر هو بهدف حفاظ المسيحيين على وجودهم وحريتهم، فهل من دور يختلف عن الأدوار التي قاموا ويقومون بها ويمكِّنهم من تعزيز مقومات وجودهم وضمان استمراريتهم؟

 

بالتوازي مع مقولة انه على المسيحيين مواصلة المزيد من الشيء نفسه، فهناك من يفكِّر، من خارج العلبة، بدورين مختلفين:

 

الدور الأول: مصارحة واشنطن بأنه لا يمكنها مواصلة التعامل مع المسيحيين وكأنهم في «الجيبة» وتحصيل حاصل وحلفاء موضوعيين انطلاقاً من مَيلهم الطبيعي تجاه الغرب والحداثة والتطور والانفتاح والعصر، فيما لا تأخذ وجودهم في الاعتبار، وتخلّت عنهم في كل المراحل، فتساهلت مع سقوط الدولة في العام 1975، وسلّمت لبنان لسوريا في العام 1990، وسمحت للدور الإيراني بأن يتغلل داخل النسيج اللبناني.

 

ومعلوم مثلاً ان واشنطن كانت تنوي تشييد سفارتها الجديدة في الحدث، ولكنها عدلت عن الأمر بحثاً عن بيئة قريبة لا معادية، فعادت وقررت تشييدها في عوكر وسط بيئة مسيحية مسالمة ولا تشكل خطرا عليها. وتدرك واشنطن وغيرها من العواصم ان المناطق ذات الغالبية المسيحية تشكل مساحة أمان واستقرار بسبب ميل المسيحيين الطبيعي للأمن والأمان، ولكن هذا المعطى لن يحافظ على ثباته مع الهجرة المتواصلة بسبب عدم الاستقرار الدائم. ولذلك، أصبح من الملحّ البحث عن الصيغة التي تشكل الاطمئنان والضمانة للوجود المسيحي، واستطرادا لموطئ القدم لأميركا وغيرها.

 

ومن هنا على المسيحيين مصارحة واشنطن وتخييرها بين دور فعّال لضمان أمنهم ووجودهم واستمرارهم، وإلا سيبحثون عن خيارات أخرى من دون معاداتها ولكن بما يمنحهم الضمانات الكفيلة بالحفاظ على وجودهم وسط مشاريع محلية وإقليمية تهدِّد هذا الوجود.

 

الدور الثاني: التفاهم مع الممانعة ليس على مشاريع سلطوية وظيفتها تغطية مشروع الممانعة، لأن هذا النوع من الاتفاقات يتناقض مع جوهر الدور المسيحي الساعي إلى بيئة مستقرة وآمنة وحديثة وحرة، فضلاً عن ان دورهم مع الممانعة شكلي ووظيفي ولا يخدم أهداف المسيحيين الوجودية. وبالتالي، منطلقات التفاهم يجب ان تكون مختلفة وجوهرها وقف النزاع مع الممانعة مقابل تسليم الأخيرة بحكم ذاتي مسيحي كحدّ أقصى، او إقرار الفدرالية كحدّ أدنى، بما يؤمِّن فك الارتباط الجغرافي-السياسي ويمكِّن الممانعة من ان تواصل مشروعها انطلاقاً من مساحتها الجغرافية.

 

وقد لا يكون هذا الدور او ذاك في محله، ولكن الأكيد ان الأدوار الحالية لا تفي بالغرض المطلوب، ومن الضروري التفكير والسعي لدور مسيحي يربط المسيحيين مع مشاريع دولية وإقليمية تضمن وجودهم واستمراريته، والكفّ عن المطالبة بالحياد الذي لن يتحقّق في ظل فئة لبنانية مرتبطة عضويا بالمشروع الإيراني، وقد حان الوقت للانتقال من رد الفعل إلى الفعل، ومن الدفاع إلى الهجوم من خلال البحث عن المحور الضامن لوجودهم واستمراريتهم، خصوصا أن الواقع المأزوم في لبنان والمنطقة سيتواصل فصولاً، ومن الخطأ استمرار المواجهة بميزان قوى مُختل من انطلاقته في ظل فريق في صميم محور خارجي، وفريق آخر يطالب بالحياد، والتوازن يبدأ مع التموضع في قلب محور آخر، وهذا التمحور يقود بالحد الأقصى إلى تسوية، وبالحد الأدنى إلى خطوط حمر تعيد التوازن والطمأنينة، فهل هذا الأمر قابل للتحقُّق؟