تفرض التطوّرات المتسارعة الراهنة نفسها بإلحاح على الوضع المسيحيّ. أوّلاً، لأنّ مسار الضغوط العربية والغربية، التي أعادت طرح الإشكاليات المتصلة بـ»سلاح حزب الله» وصولاته وجولاته، بات يقترب من «المساواة» بين «حزب الله» وبين حليفه المسيحيّ، رئيس الجمهوريّة، وثانياً لأنّ الطرف الداخل في «مصالحة رئاسية مسيحية» مع تيار العماد ميشال عون، ما زال يحاول النأي بهذه المصالحة عن مآل التسوية الحكومية المنهارة.
عموماً، لا تزال أطراف كثيرة في الداخل اللبناني غير مدركة بأننا دخلنا في لحظة إقليميّة جديدة كليّاً، لكن الكرة هي اكثر فاكثر في ملعب رئاسة الدولة.
والرئاسة اللبنانية تابعت ما يمليه عليها واجبها كرئاسة من طلب ايضاحات حول ملابسات استقالة الرئيس سعد الحريري، الى ان اطل بنفسه من الرياض في مقابلة تلفزيونية مع الزميلة بولا يعقوبيان امس، مشددا على ان الاستقالة ستسلك سبيلها الدستوري بعودته الى لبنان، مبددا الاخذ والرد حول جواز الاستقالة من الخارج.
لكن الرئاسة، إذا أرادت استباق قدوم اللحظة الاقليمية (والدولية؟) اليها، وأرادت تجنيب اللبنانيين مضاعفات سلبية اضافية، لا بدّ لها من أن ترافق هذا المسار «الإيضاحي» الذي تنهض به، وتلاقي طرح الرئيس الحريري بالأمس حول النأي بالنفس، جدياً، للبنان، وبالذات وقف تعرض «حزب الله» للسعودية وبلدان عربية اخرى. واليوم، قد نكون امام فرز حقيقي، بين مروحة من القوى اللبنانية تريد عودة سعد الحريري جدياً، وفي السياسة، على قاعدة تسوية بشروط استدامة عنوانها الابرز سحب البساط من تمترس «حزب الله» وراءها للقنص على دول عربية، في اطار الصراع بين هذه الدول وبين ايران، وهو فرز سيظهر معه ان «حزب الله» من ناحية، وبعض الفرق العدمية المزايداتية من ناحية اخرى، لا تريد عودة الحريري لقيادة الحراك من اجل التسوية المصححة، الحزب لانه لا يناسبه التصحيح، والثانية لانها تريد «ان تخربها وتقعد على تلها». الرئاسة، من مصلحتها، يفترض ان تكون الى جانب اعادة الاقلاع بالعهد، بتصحيح المسار مع «حزب الله».
وهذا يكون بموقف تاريخيّ، بمطلب محدّد من الرئيس عون، يوجه لقيادة «حزب الله»، بإعلان وقف كل الأعمال التحريضية والعدائية ضد المملكة العربية السعودية والبلدان العربية الأخرى.
الخطورة هنا أن تدفع الرئاسة الأولى إلى تصدّر معركة ليست لها، وليست في صالح عموم اللبنانيين، معركة سترتد بنتائج عكسية على الوضع العام، مثلما هي مخاطرة في المقلب الآخر، من أن تؤدي أي حركة غير منهجية، وغير متناغمة داخلياً، وبين مروحة من القوى الداخلية، وغير عميقة الرسوخ في الرأي العام، ومستقرئة للأوضاع الدولية العارضة كما لو أنّها ثابتة وراسخة، الى نتائج عكسية هي الأخرى.
وحتى الساعة، بالنسبة لشريك الرئيس عون في المصالحة المسيحية، «القوات اللبنانية»، فقد اعتمدت خطاباً عالي السقف تجاه أوهام التسوية الزائلة، أو أوهام احيائها بالشكل الذي كانت عليه، وامتنعت عن الذهاب لأبعد من مناشدة رئيس الجمهورية بأن يعقد طاولة الحوار الوطني.
ولا يعني ذلك أن انعقاد الطاولة هو أمر نافل أو غير وجيه، لكن الطاولة بالشكل الذي قامت عليه في الإحدى عشرة سنة الأخيرة لا يغري مثالها بالدعوة اليه. ان تحويل طاولة الحوار الى هيئة انقاذ وطني حقيقية رهن اليوم بإطلاق رئيس الجمهورية نداءه، بإتجاه «حزب الله»، لوقف الأعمال العدائية والتحريضية على السعودية والبلدان العربية. تحتاج الرئاسة لمثل هذا الموقف، مقترناً بموقفها المطالب بتوضيحات حول الإستقالة وملابساتها، وهو ما تعهد به الحريري امس.
ليس هذا بخياليّ أو مُستبعد. المستبعد هو الامتناع عن ذلك من دون توقع تبعات سلبية أو خطيرة .. بما في ذلك تبعات تتعلّق بمسار الأمور والعلاقات في الإجتماع السياسيّ المسيحيّ نفسه. فهذا الإجتماع من مصلحته، من جهة، المحافظة على المصالحة المسيحية، وتوسيعها، أكثر من أي وقت مضى، لكن من مصلحتها أيضاً، الدفع بها نحو إعادة التقاط المعنى المتكامل لمفهوم السيادة، وهذا يعني بالدرجة الأولى، تشكيل نقطة إجماع مسيحية، ان لم يكن حول «حزب الله» ومسائله ككل، فأقله حول كارثية استمراره في الأعمال التحريضية والعدائية ضد السعودية ودول الخليج، وبالذات في هذه اللحظة التصادمية بامتياز بين هذه البلدان وبين ايران.