كلّ مصالحة مسيحيّة هي «عافية» للجسد اللبناني المريض، لطالما استخدم ملفّ إهدن لتمزيق الجسد المسيحي الواحد، والمصالحة و»ردم الدمّ» في هذا الملفّ كانت ممنوعة، يستحضر متى احتاج «الاحتلال» ويسحب من التدوال متى أراد «الاحتلال»، نعم تنفّس اللبنانيّون مسيحيّين ومسلمين بعد مشهد المصالحة الكبير في الصرح البطريركي، هذا مشهد للتاريخ، وأمثولة حقيقيّة لرجليْن اختارا وبشجاعة كبرى وبعد أربعين عاماً أن يُغلقا جرحاً عميقاً جدّاً، ختم جروح الذاكرة اللبنانيّة في زمن الحرب يحتاج إلى شفافيّة حقيقيّة شاهدناها في بكركي، ختم ذاكرة الحرب لا تكفي فيه الأقوال «عفا الله عمّا مضى»، فيما الأفعال والممارسة عكس ذلك.
ونودّ أن نسجّل هنا ـ وبصرف النّظر عن موقفنا الشخصي المتحفّظ دائماً تجاه النائب والوزير السابق سليمان فرنجيّة وسياسة «الخطّ» الملتصقة حتى الذوبان في النظام السوري ـ احترامنا وإعجابنا وتقديرنا لخطوة المصالحة التي اختار أن يسير بها لمصلحة المسيحيّين في لبنان، ونودّ أيضاً أن نسجّل إعجابنا واحترامنا وتقديرنا لشخص الدكتور سمير جعجع «الحكيم»، لأنّه مثّل خلال السنوات الماضية «النّموذج» الوطني الصّلب في السّعي الدؤوب لتحقيق هذه المصالحات التاريخيّة لإعادة التلاحم والقوّة إلى الجسد المسيحي الذي شرذمته الحرب، ولا نظنّه سيكتفي بالمصالحات المسيحيّة، على الأقلّ نظنّ أنّنا نفهم عقل هذا الرّجل، فهو ماضٍ في سياسة المصالحات الكبرى حتى تلتحم أجزاء الوطن اللبناني، وتلتئم كلّ جروحاته العميقة.
الأكثر أهميّة في مشهد المصالحة هو إحلال الأمل محلّ اليأس في قلوب اللبنانيّين، في أيامهم الحكوميّة الدّامسة، الأمل في أنّه بالرّغم من كلّ الاختلاف مع حزب الله وبيئته الحاضنة بسبب أجندته الإيرانيّة، هناك أمل بأن يعود يوماً إلى لبنانيّته مهما شعرنا «إنّو ما منّو نوى»، المصالحة بين سمير جعجع وسليمان فرنجيّة، نموذج حيّ يقول للبنانيّين «أيه في أمل»، مع أنّ هذا النّوع من المصالحات يتطلّب رجالاً على قدر كبير من المسؤوليّة والحكمة، و»عسى ولعلّ» نرى مشهد مصالحة بين حزب الله وكلّ اللبنانيّين الآخرين، يخرج فيها من الحضن الإيراني إلى كنف لبنان الوطن والدّولة.
2 ـ جمال خاشقجي.. تحيّة
هذه النهاية المفجعة لرجلٍ لم يملك إلا القلم والكلمة والتمسّك بحريّة التعبير عن رأيه، لو عرف يوماً جمال خاشقجي، أنّ خاتمته ستكون على هذه الصورة المروّعة، لما اختار هذه المهنة، تفجعنا الأقدار أحياناً، تفجعنا إلى حدٍّ يجعلنا نتأمّل كيف تأتي النهاية في لحظة كان إنسان فيها يستعدّ لبدء حياة جديدة للاستقرار والزواج والاطمئنان، فينتهي قطعة قطعة غير معروفة المكان..
الاعتراف بهذه النهاية المفجعة، تأخّر كثيراً، بُعيد أيام على مقتل خاشقجي كانت كلّ المعلومات والأحاديث المعلنة تشير إلى تقطيع جثته وإخراجها أشلاء من مبنى قنصليّة بلاده، كان الحديث عن «المنشار» سيّد اللحظة، تلقّيتُ «تأنيباً حادّاً» لأنّني تجرّأت وكتبت عن «أشلاء جثة جمال خاشقجي»، الآن بات الحديث عن «تجزئة» جثّته رسميّاً، استوقفتني بشدّة بالأمس كلمة «تجزئة» بدلاً من «تقطيع»، فـ»التجزئة» تلطّف القتل وتقطيع الجثث بالمنشار جزءاً فجزءاً، أو «حتّة حتّة»!
أيّ نهاية مفجعة إلى أبعد الحدود لجمال خاشقجي، أن لا يكون له رفات ولا قبر يُدفن فيه، هو الذي أوصى أن يدفن في «بقيع» مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، «اللهمّ تقبّل هذا القربان» واجعل كتابه في عليّين وتغمّده بواسع رحمتك.