IMLebanon

المسيحيون الحدث وقلبه… مهما تذاكى “الممانعون”

 

يتّضح لمن يتابع حرب غزة بعمق أنّها حرب لا ترحم، ففيها تشارك أكثر من دولة وأسطول. وإذا كان ميزان القوى راجحاً لمصلحة إسرائيل، إلا أنّ الدولة العبرية أمّنت أكبر حشد في تاريخها يفوق الحروب العربية – الإسرائيلية، ووسط هذه الأجواء الإقليمية والدولية الصاخبة هناك من يخرج من اللعبة الكبيرة ليدخل في سياسة الزواريب، ويسأل، على سبيل المثال لا الحصر، عن دور المسيحيين!

لا تُطرح في هذه المرحلة الحربية مسألة الدور المسيحي أو دور أي طائفة، بل المطروح على بساط البحث دور لبنان وموقعه وقوته ووجود الدولة، وسط استباحة «حزب الله» قرار السلم والحرب والمخطط الإسرائيلي الذي قد يتخطّى غزة ليشمل تدمير لبنان إذا أُقحم في الحرب.

ومن يسأل عن الدور المسيحي في هذه المرحلة، يبدو أنّه لا يجيد قراءة الحدث الكبير الذي يشهده الشرق الأوسط ويرغب في التنمّر فقط، ومن ثمّ محاولته أخذ المسيحيين إلى الموقع الذي لا يريدون الذهاب إليه، وهم الذين دفعوا الثمن الأغلى للإنفلاش الفلسطيني وأفشلوا مخطط «طريق القدس تمرّ بجونية».

لم يغِب المكوّن المسيحي عن المشهد السياسي، في ظلّ أقسى أيام الإضطهاد، حتى قبل نشوء الكيان اللبناني أو «لبنان الكبير»، فالبطاركة الذين سكنوا كفرحي وإيليج وقنوبين والديمان وبكركي لاحقاً، ظلّوا في قلب الحدث يتحدّون الإمبراطوريات والأباطير ويحطّمون صور الحكّام الأساطير المتربعين على عرش إمبراطوريات لا تغيب عنها الشمس.

أما في التاريخ الحديث، فقد كان المكوّن المسيحي الحاضر الأول في قلب اللعبة السياسية بعد عام 1990، وربما عدم مشاركته في السلطة وتأدية الدور اللازم هو صكّ براءة، لما شهدت تلك المرحلة من تعامل مع الإحتلال السوري وفساد وسرقة وهدر. وتأكيداً على الدور المسيحي الذي لا يمكن تغييبه، ظلّ المسيحيون فاعلين، فالدكتور سمير جعجع كان في زنزانته والعماد ميشال عون في المنفى، والشارع المسيحي يتظاهر بشكل شبه يومي مطالباً بالحرية والسيادة والإستقلال. وشكّل نداء المطارنة الموارنة في أيلول 2000 المدماك الأساسي والأول لإنتفاضة الإستقلال التي لولا صمود البطريرك مار نصرالله بطرس صفير وصلابته لما كان هناك «لقاء قرنة شهوان» ولا «لقاء بريستول» ولا تجمّع للقوى السيادية في إطار 14 آذار.

شكّلت محطة 14 آذار التاريخ المفصلي بين مرحلة وأخرى، عندها كان المسيحيون أول الواصلين إلى ساحة الشهداء، وقادوا إنتفاضة الإستقلال التي تعتبر من أعظم الإنتفاضات السياسية في تاريخ لبنان، واستطاعوا على رغم الخلافات السابقة، نسج تحالف وطني كبير مع المكوّن السني والدرزي وجزء من المكوّن الشيعي، وبالتالي أدّى المسيحيون الدور الأهم وهو تحرير لبنان من السوري.

اليوم يقف لبنان والمنطقة أمام محطة مفصلية وتاريخية، ومن يقول إنّ المكوّن المسيحي غائب يكون مشاركاً في لعبة التعمية. فلو كان هناك كيان مسيحي مستقل لصحّ هذا القول، لكن المسيحي يمارس السياسة ضمن إطار الدولة وضمن حدود لبنان.

ويحاول المكوّن المسيحي بشقّيه الروحي والسياسي ومنذ سنوات صون هذا البلد، فمن ينتقد غياب الدور المسيحي، لا يعرف أنّ بكركي كانت أوّل من دقّ ناقوس الخطر الداهم، لذلك سارع البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الى طرح مسألة تحلّ الأزمة اللبنانية، وهي تأمين حياد لبنان وعقد مؤتمر دولي لمساعدته، من ثمّ طالب بنزع سلاح الميليشيات اللبنانية والفلسطينية وعلى رأسها سلاح «حزب الله» المرتبط بإيران. فلو أقرّ الحياد ووافق الجميع عليه ونزع سلاح الميليشيات، لكانت أضرار الحرب أقل بكثير ولا يستطيع أي فصيل هزّ استقرار الجنوب.

ولم يتوقف هاتف البطريرك منذ إندلاع حرب غزة، وتواصل مع الدول الفاعلة والقوى المؤثرة من أجل تجنيب لبنان نيران الحرب، وسيلتقي البابا فرنسيس بطاركة الشرق الكاثوليك آخر الأسبوع لطرح مسألة الصراع في الشرق الأوسط ومحاولة تجنيب لبنان الحرب، وقد تواصل الراعي مع الفاتيكان منذ أيام لعرض المسألة ومتابعتها مع عواصم القرار.

أمّا في الشقّ السياسي، فمنذ خروج قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع من السجن في تموز 2005، وهو يطالب بسحب سلاح الميليشيات وبناء دولة فعلية وقوية وقادرة ومعه كل القوى السيادية المسيحية، ومثله تفعل كل القوى السيادية. وحاول المكوّن المسيحي صون البلد بانتخاب رئيس للجمهورية، وحصل تلاقٍ تاريخي بين «القوات» و»التيار الوطني الحر» والكتائب والوطنيين الأحرار وحركة «الإستقلال» والغالبية الساحقة من النواب المسيحيين المستقلين والتغييريين على إنتخاب الوزير السابق جهاد أزعور في جلسة 14 حزيران الماضية، وهذا التقاطع لم يحصل في التاريخ المسيحي، فهل من احترم الإرادة المسيحية وانتُخب رئيس ليتمكن من مخاطبة المجتمع العربي والدولي وإصلاح الداخل؟

من يضع المسألة عند المسيحيين كمن يدفن رأسه في الرمال، فهل بقية الطوائف بخير؟ السنّة مشتتون وليس لديهم مرجعية، والدروز يشعرون بالخطر الوجودي، أما الشيعة فهم أكثر طائفة في خطر، خصوصاً إذا أقحمها «حزب الله» في الحرب حيث ستدفع الثمن الأكبر، وبالتالي الحديث عن غياب الدور المسيحي، خلفه أمور صغيرة وسط التغييرات الكبرى، أما الأخطر فهو ما يحاول محور «الممانعة» فعله.

يروّج «حزب الله» بقوة لمشاركة «قوات الفجر» التابعة لـ»الجماعة الإسلامية» في عمليات الجنوب من أجل كسب تأييد الشارع السنّي، علماً أنّ هذه القوات لا وجود عملياً لها على الأرض ، ومن جهة ثانية، يحاول حشر المسيحيين والحديث عن دورهم لدفعهم وأخذهم إلى خيار «الممانعة» إنطلاقاً من فكرة دعم فلسطين وغزة. لكن المكوّن المسيحي يعي كل تلك النقاط ولا أحد يستطيع التهويل عليه وموقف قواه الروحية والسياسية واضح، وهو: التضامن مع فلسطين الى أقصى حدود وعدم توريط لبنان في الحروب ودعم الدولة، ومع الحياد الذي دعا إليه البطريرك ورفض إستخدام أرض لبنان والجنوب في الصراع الإسرائيلي- الإيراني أو صندوقة لتوجيه الرسائل.