يعيش لبنان اليوم استعصاءات مصيرية. ولا شك أن سبب هذه الاستعصاءات هو ما يسببه “حزب الله” من أمرٍ واقع، لم تتمكن مختلف التيارات والآراء والخيارات والمبادرات حتى الآن من تجاوزه إلى ما هو أفضل.
نظرياً، أفضل موقف وأطهره هو رفض التعامل مع الأمر الواقع. ولكن هذه الطهرانية لا تُعفي أحداً من السؤال: كيف يمكننا تفادي المضاعفات العملية لهذا الأمر الواقع؟ من البديهي ان يرفض “حزب الله” هذا التوصيف جملة وتفصيلاً، ولكن هذا موقف بلا صدقية لأن الأمر الواقع لا يحتاج لا لتفسير ولا لإنصاف ولا لأعتراف، وخاصةً لإقناع. على كلٍ الكلام ليس موجهاً لـ”حزب الله”، ولأن الأمر الواقع هو حالة نافية للتخاطب أو الإقناع أو النصح، إنما الكلام موجّهٌ للمختلف عنه، مهما كان مستوى الإختلاف أو موقعه أو مستوى رفضه، فله أن يحدد طريقة تعامله لهذه الرفض بمعيار التأثير لتنامي عناصر قوة حضور المصلحة الوطنية.
وهذا التوجه إلى المختلف عن الأمر الواقع هو توجّه لمن كان “وسطياً” أم “معتدلاً” أم “رافضاً للتعامل”. وانتقالاً للحركة السياسية اليومية، من موقعي المواطني، المرجِّح لعدم قدرة هذا التعامل مع هذا الأمر الواقع أن يؤتى منه بثمار كثيرة، فإنني لا أستطيع أن أضرب صفحاً أو أن اتبرّأ من محاولات وسياسات ومبادرات تطرح اليوم من قبل حالات سياسية وواقعية في أعقاب ما حالت إليه حركة 14 آذار، تحديداً في الفترة الأخيرة، وما حملته معها من تحولات وتغيرات في المستوى اللبناني والإقليمي والدولي، وكذلك في ضوء فشل محاولات “حزب الله” لنقل الفتنة للداخل إضافةً لفقدانه صدقية ذرائعه المتدرجة ولصدقية تبريراته لتوريط لبنان في الصراع الإقليمي شريطة ألا تتجاوز في تعاملها التخلّي عن الثوابت الوطنية. وسبق أن حصل مثل ذلك في الدوحة.
إن التعامل القسري مع الأمر الواقع المزمع الإقدام عليه ليس أكثر من امتداد لمبدأ “ربط النزاع”.
يفترض لفت الإنتباه بقوة لأمر قدرة ورسوخ العقلانية في وعي المواطنين اللبنانيين الذين رفضوا “رقصة تانغو الحرب” التي حاول “حزب الله” جاهداً، وفي كل الساحات” جرّهم إليها ، معلنين تمسّكهم بشعار الدولة. وهذا يوجب العمل دوماً لبلورة حالة وطنية متحرّرة متكاملة ومتفارقة مع القوى الواقعية المنتظمة نظراً للقاسم المشترك ألا وهو: واقعية خيار العبور إلى الدولة.
أعتقد أنه بات يتوجب علينا اليوم مقاربة الواقع المسيحي ولكن بحذر شديد، حذر يحاول محاذرة إصدر الأحكام قدر الإمكان. مترافقاً مع محاولة نقد لتظهير ومعالجة مسببات ضعف أداء المكوّن المسيحي المفترض أن يكون أكثر فاعلية بمرّات. والعتب ينطلق من موقع الحرص على من يمتلك مقوّمات الدور الفاعل ولا يُقدم عليه.
إن المدخل لمعالجة الدور المسيحي هو في جرأة الإنتقال من الوعي الذي كان سائداً في بداية تكوّن الجمهورية والذي اعتبر نفسه غائية هذا الكيان. ولنفترض أن ذلك كان في الواقع صحيحاً فالمسلكية العامة السياسية كانت تفترض حكماً خروجاً عن الأنانية وجعل العامل المسيحي في خدمة غائية الوطن لا العكس. لأن صيانة المصلحة المسيحية وفاعليتها وكما المصلحة الوطنية تفترض ذلك. وللأسف، تاريخياً يبدو أن السلوك العام كان نقيض ذلك.
أما العامل الآخر الحاسم وهو لم يولَ أهمية في مسار التجربة الطويلة، وكما اليوم، هو جعل الوجود المسيحي “حاجة” لتطور الدولة والمجتمع بمكوناته المختلفة. فالواقع المسيحي في البعد الديني واللاهوتي والإجتماعي والمرجعي، يتمتع بمميزات ليست متوافرة لدى أي مكون آخر. وهذه المميزات قادرة على جعل الدور الجماعي والفردي المسيحي حاجة مصلحية وموضوعية لتطور المجتمع اللبناني.
ولغياب الإستفادة من هذه المميزات إفتقد الدور المسيحي قوة المثال. مثلاً، هل تقدمت المواطنية ومساحة دور الأفراد في هذه البيئة أكثر من بيئات أخرى؟ هل تناقصت العصبيات الحزبية والعائلية والمناطقية المسيحية؟ هل تمكن المسيحيون من ممارسة عملية الاختلاف والتنوع والانفتاح بشكل يستطيع أن يقدم مثالاً؟ هل نستطيع القول أن المسلكية السياسية العامة أعلت مصلحة الدولة فوق كل اعتبار؟ جل ما يبتغيه هذا الكلام هو الحرص على استعادة المبادرة التي لم نحسن استخدامها سابقاً لمعاودة بلورة الدور والفاعلية وتقديم نموذج للحداثة والتقدم من خلال دخول خيار الإصلاح المتدرج بدءاً من السعي لاعتماد خيار الأحوال الشخصية الإختيارية وصولاً إلى خوض خيار غمار تجربة نهضوية واسعة.
الواقع المسيحي اليوم يعيش في الظاهر تعدداً، وهذه ميزة إيجابية يأمل الحريص أن تسود كل المكونات اللبنانية لأن الوحدانية هي حالة موت سريري.
ولكن التبصر العميق والهادىء هل يثبت فعلاً أن الواقع المسيحي يعيش تنوعاً وتعدداً يرتكز على دينامية التعدد والتنوع والرحابة وقبول الآخر؟ أو أنه يعيش في حالة من العصبيات المتوازية التي تشبه المعازل، وتجهد لاختزال المجتمع جماعاتٍ وأفراداً ونخباً ملغياً دينامية هذا التنوع ليحل محلها منطق الطاعة والنفي وإعلاء شأن الفئوية العصبوية؟
تمت مراجعات نقدية عميقة في بعض البيئات المسيحية، والسؤال: هل وصلت الرسالة؟ وإذا كان الجواب لا، فالسؤال لماذا؟ هل هي الممارسة؟ هل هو تواصل المشهد القديم؟ هذا أمر يوجب تكرار التأمل وتعميق مبضع النقد خياراً وممارسة.
طبعاً لا يمكن غض النظر عن الإختلافات في الواقع المسيحي. وإذا كان المعيار الأول والأخير في الحكم هو السعي للعبور الى الدولة فإن القوات اللبنانية وحزب الكتائب وحزب الأحرار والكتلة الوطنية، وهي تشكيلات يمكن تصنيفها مسيحية من حيث التكوين، هذه كلها اتخذت خيارات هي في صلب هزيمة الوصاية السورية. وفي أكثر من استحقاق لعبت أدواراً متفاوتة ولكن في الاتجاه نفسه مع ضرورة الاشارة إلى بعض السقطات الكبيرة عند البعض. أما في معركة الرئاسة فكان جليّاً صحة دور القوات اللبنانية ورئيسها سمير جعجع سواء في احترام الأصول الدستورية أو في الاستعداد للتخلي لمصلحة انتخاب رئيس توافقي. ولكن نحن اليوم نواجه خطراً وجودياً ومصيرياً ورغم حساسية وأهمية معركة إتمام الاستحقاق الرئاسي فهو يفوقها حساسية وأهمية وهي لا تضع حداً وإن قللت من مخاطره في ما لو حصلت. ويخالجني افتاح عميق أن أحزاب الحرب لا تتمكن أن تعيد اللحمة مع الرأي العام وفي ما بينها في أقلّ من بذل جهود جبارة وذات صدقية فالتفارق بين القول والممارسة قاتل قاتل. والواقع المسيحي حساس جداً لأنه بمجمله سياسياً دخل الحرب وليس لديه بعدٌ إقليمي كغيره، والحرب توصل إلى الفصل وتلغي التواصل، كما أنها قادرة على تسطيح النظرة للواقع والتراث والإمكانات الكامنة وهذه كلها غنية وموجودة بقوة داخل هذا المكون وهي مصدر غناه وقوته. فإذا عجزت عن استحضاره وإنعاشه والغَرْفِ من معينه تكون قد قزّمت دورها السياسي والمدني والثقافي والوطني. وإذا تكلمنا عن الأحزاب والمؤسسات في هذا المضمار فيجب أن يصار إلى إنتاج أبحاثٍ عن دور المؤسسات وعقد ندوات إجراء نقدٍ مبضعي حاد، وخاصة لمؤسسة الكنيسة التي تشير الى أنها على حافة صفة اللا جامعة واللا رسولية.
الوضع المسيحي ضائع ومأزوم، ولا يسعنا تحميل المسؤولية للجهات المشاركة والمسببة والعاملة والمتبنيّة لأزمته. نستطيع أن نطالب النخب والمؤسسات وخاصة الكنيسة التي لعبت دوراً كبيراً لا بل حاسماً في مواجهة الأمر الواقع السوري وساهمت في هزيمته. أين هي اليوم؟ نودّ الوضوح ثم الوضوح. نودّ تحديد الموقع، ولا نقصد الموقع الحزبي، نقصد الموقع في وجه من يهدد الدولة والوطن ومع ضرورة التسمية. استنفار الامكانات، أولاً الداخلية، وهي كبيرة كبيرة، وثانياً الخارجية وهي كبيرة. وما هو متوافر من حصانة للبطريركية ليس متوافراً لأحد، واستخدامه ليس استنسابياً.
الوطن هو كنيسة الشعب وجامعه، وكما الكنيسة لا تحيا إلا بالشهادة للحق والتسامح كذلك الأوطان.
ايتها الكنيسة، هل أحصيت ما لديك من إرث الأجيال مادياً وثقافياً ومعنوياً وتضحياتٍ وعلاقاتٍ ونخباً، هل أحصيت الجامعات والمدارس والمعاهد والثروة البشرية داخلها وخارجها، خاصة أنه لديك أعلى حصانة في لبنان، وأكبر توافر لمستلزمات النهوض. والآن “مرتا مرتا تهتمين بأمورٍ كثيرة والمطلوب واحد” – المطلوب شراكة كبيرة مع كلّ الإرث المسيحي واللبناني والعربي وشهادةٌ شجاعة ومجلجلة بالحق والوقوف في وجه الباطل وتحديده. وحينها نقترب من القول أننا نسعى من هذا الموقع في تقديم لبنان لبيئته وللعالم وطن رسالةٍ ودور.
المكونات الأخرى تماثلت مع الجميع في الحرب في الإختزال والتسطيح، ولكن الجميع إذا تغافل وقصّر فهو يقع في بيئة واسعة تنقذه أو تستحثه أو تحميه، علماً إنه ليس معفىً بتاتاً من الجهود المضنية لاستنهاض العوامل الإيجابية اللبنانية الإيجابية لديه. أما المسيحيون فواجب دورهم أكثر قسوة وضنىً وواجب التفاعل مع قوة العوامل القادرة والمتناسبة مع لبنان هو واجبٌ يجب أن يمارس في البيئة الواسعة صاحبة الإنجازات الواسعة الجبارة والتاريخية.
وآمل نهاية أن تكون كافة العوامل المكونة مدركة لحجم العتب والتململ الذي يعتمر داخل مكوناتها الفردية والنخبوية ومؤسساتها المختلفة الدينية والثقافية – هناك جوع وتطلّع مصمم لعمل نهضوي عاقل حداثي وإصلاحي، والأمل هو أن يُلاقى بالاستعداد نفسه إلى منتصف الطريق، وكل ركونٍ ومماطلة ستكون عواقبه وخيمة. إن “حزب الله” الذي دخل في خيارٍ لا أفق له ولا أمل، يراهن على عقم الآخرين لكي يتمكن من العودة إلى أرضٍ هجرها الحرص والقدرة والإرادة النهضوية.