عاد البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي الى الصرح البطريركي في بكركي، بعد زيارته دمشق ليومين حيث شارك سائر «البطاركة الانطاكيين» القمة الروحية التي عقدت في «الكاتدرائية المريمية» في العاصمة السورية…
القمة الروحية هذه، هي في حد ذاتها حدث بالغ الأهمية، في مثل هذه «الظروف الاستثنائية» التي تمر با بلاد «المشرق العربي» ورسالة واضحة الدلالة على تعلق «نصارى» هذا المشرق بتاريخهم وثقافتهم وأرضهم، واصرارهم على مشاركة سائر الآخرين، و«حدة الحياة» و«وحدة المصير»…
ليس من شك في أن ما تعرضت له رموز مسيحية، ثقافية وتاريخية من أعمال عنف واعتداءات وتهديدات، دفعت عديدين، في العراق، كما في مناطق سورية، الى ترك بيوتهم وقراهم ومدنهم الى أمكنة أخرى، وعدد غير قليل منهم غادر الى دول أوروبية – وافريقية، الأمر الذي وضع وجود المسيحيين المشرقيين في دائرة الأسئلة والتساؤلات بل في «دائرة الخطر»؟! على ما يذهب البعض..
وضعت «القمة الروحية» هذه الاصبع على الجرح، عندما خاطبت «المجتمع الدولي» الذي «اعتاد الكيل بمكيالين» لتؤكد له وبوضوح تام، ان «مسيحيي المشرق» هم:
– «ليسوا دخلاء» على أوطانهم وشعوبهم
– «اصليون في هذه الأرض» التي كانت مهد الحضارات الانسانية الثقافية والروحية…
– «متجذرون في ترابها الذي سقي بعرق جبين أبنائنا وأجدادنا» (جانبت القمة استخدام عبارات من نوع «بدم أبنائنا وأجدادنا») مؤكدة «اننا باقون فيها أكثر من أي وقت مضى لنبنيها مع أهلها…».
ليخلص البيان الختامي الى دعوة «كل من يدعي الاهتمام بمصيرنا (كمسيحيين) الى ان يساعدنا في البقاء والتجذر في أرضنا من أجل حراستها وتنميتها والافادة من خبراتها… لا ان يسهل نهب تراثنا وخبراتنا وتدمير حضارتنا واستبعاد انساننا وارغامهم على الهجرة…» وهنا «بيت القصيد» الأساس من وراء القمة، التي خاطبت «كل من يدعي الاهتمام بمصيرنا» من الدول العظمى التي دأبت على الكيل بمكاييل مختلفة حسب مصالحها… على قاعدة «لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، ولكن مصالح دائمة…»؟!
عاد الراعي الى صرحه، وهو يضع يديه على قلبه، وأمام عينيه مشهد «الواقع السياسي المسيحي – الماروني» الذي دخل في نفق صراعات وحسابات هي دولية – اقليمية في المقام الاول… وهو، وإذ يرى ان مسيحيي لبنان، عموماً لايزالون الأقل تعرضاً نسبياً للمخاطر اياها التي تحدثت عنها «القمة الروحية» فإنه لم يخفِ قلقه مما يحدث في الواقع الاقليمي وما سيتركه من تداعيات في الواقع اللبناني، المسيحي والمسلم سواء بسواء… لكن همّه تركز بالدرجة الأولى على اعادة ترتيب البيت الداخلي، الذي شلعته العواصف والحسابات السياسية والمصالح الشخصية في المقام الأول.
يُسأل البطريرك الراعي ماذا ستفعل لاعادة ترتيب «البيت الداخلي» وهو يعيش يوماً بيوم وساعة بساعة ولحظة بلحظة تداعيات الشغور في سدة رئاسة الجمهورية التي يشغلها مسيحي في المنطقة كلها… فلا يملك جواباً سوى «التضرع لله» ليلهم المعنيين الوعي والادراك وحسن تدبر الأمور… اما عدا ذلك، فالكرة في ملعب «الزعامات» المسيحية… التي حبكت علاقات، كل حسب موقعه، مع سائر الافرقاء الآخرين، الموزعين مذاهب وقوى سياسية تتلطى بالمذهب والطائفة، باعتبارها الأكثر استدراراً للشعبوية في مواجهة الخصوم؟!
ليس من شك في ان أمام «القيادات الروحية» المسيحية، كما المحمدية، مهمات كبيرة وكبيرة جداً، بل وشاقة، واللبنانيون يتطلعون الى انجاز «مأسسة القمة الروحية الاسلامية – المسيحية» التي عقدت قبل أشهر، لتكون حاضرة، وقادرة على تحويل الكلام الى أفعال على الارض… والمهمة الأساسية الملقاة على عاتق هؤلاء تكمن في «اعادة صياغة التربية الدينية وتحريرها من الاختراقات المدسوسة التي لا تمت الى الدين بصلة… فتعدد الطوائف والمذاهب «مصدر غنى» ثقافي وروحي، ويبطل ان يكون دينياً اذا ما انحرف باتجاه «الفرقة» والنزعات الفتنوية القاتلة والمدمرة… والموضوعية تؤكد أنه يستحيل فهم أي «مذهب» بعيداً عن الظروف الثقافية والتاريخية والاجتماعية في المحيط الذي نشأ فيه وانطلق منه…
لكن السؤال يبقى هل في مقدور هذه القمم ان تحقق هذه النقلة النوعية باتجاه الاصلاح واعادة البناء؟ وهل بمقدور «المرجعيات الروحية» ان تتحرر من قبضة «الزعامات السياسية» التي تستخدم الدين والطائفة والمذهب مادة للوصول الى أهدافها ومصالحها؟… وهل بمقدور هذه «القمم» ان تصيغ «عقداً اجتماعياً» جديداً أساسه المواطنة، وقد لفتت الى هذا القمة الروحية – الاسلامية، وتحدث كثيراً فيه البطريرك الراعي، بعدما ثبت ان «المواطنة، والانتماء الوطني» عاملان ضروريان لوحدة الشعب والدولة والكيان وقطع الطريق على أية محاولات لزرع الفتن والانقسامات بين أبناء الشعب الواحد ومصدر القوة الوحيد والبيئة الوحيدة الصالحة للنمو والتقدم الى الامام وزرع الأمن والأمان والاستقرار…