تستند الصهيونية المسيحية أساساً إلى التفسير اللاهوتي المسيحي للعهدين القديم والجديد. هذه الأيديولوجية تجذرت في حركة المسيحية الإنجيلية الاستعادية (الأصولية)، وهي فكرة لاهوتية وتاريخية داخل المسيحية تسعى إلى استعادة، ما يعتقد أتباعها، أنّه الشكل الرسولي الأصلي للمسيحية كما هو مستقى من العهد الجديد. غالباً ما تربط هذه الحركة بالرغبة في العودة إلى ممارسات ومعتقدات الكنيسة المسيحية الأولى. الملامح الرئيسية للإنجيلية الاستعادية هي رفض التحولات العقائدية في التاريخ المسيحي، والالتزام بمرجعية الكتاب المقدس كدليل وحيد للإيمان والممارسة، مستمدة بعض الإلهام من العهد الجديد. الإنجيلية الاستعادية مصطلح واسع يمكن أن يشمل مختلف التوجهات والحركات والكنائس الإنجيلية. وقد يكون للمجموعات المختلفة ضمن هذا المصطلح الشامل معتقدات وممارسات متميزة عن غيرها، لكنها تشترك عموماً في الهدف المتمثل في إعادة المسيحية إلى ما تعتبره شكلها الأصلي النقي.
أما بالنسبة للصهيونية المسيحية، فهي تحوي في طياتها تناقضات أساسية. أولاً، على الرغم من أن المسيحية الصهيونية تصرّ على أنّها توجّه لاهوتي بحت، وليس سياسياً، فإنّ هذا الفصل بين الأمريْن غير ممكن لعواقبه السياسية. ثانياً، إنّ استخدام الصهيونية اليهودية السائدة للصهيونية المسيحية للتأثير على السياسة الخارجية للولايات المتحدة مبني على ضلال، لأنّ الصهيونية المسيحية تقوم على الرغبة في تنصير أو إبادة جميع اليهود. ثالثاً، الصهيونية المسيحية معادية للسامية، وترغب في القضاء على جميع اليهود غير المتنصرين (مع العرب المسلمين). أخيراً، بما أنّ الصهاينة المسيحيين يفسرون العهدين القديم والجديد بطريقة «حرفية»، فإنّهم يلجأون إلى أسطورة «هرمجدون» لحل مسألة تناقضاتهم اللاهوتية، أي من خلال التدخل الإلهي.
«فلسطين… في خطر دائم من الحريق. الشرر يتطاير فوق حدودها طوال الوقت وقد يكون، في يوم غير متوقع، أن يبدأ حريق يجتاح هذه الأرض بلا رحمة». رسالة من أوتيس جلازبروك، القنصل العام للولايات المتحدة في القدس، ديسمبر 1919.
دور أميركا
لم يكن دعم الرئيس الأميركي وودرو ويلسون لوعد بلفور جدياً لولا نظرته إلى أميركا على أساس أنّها «صهيون الجديدة» ودعمه للمسيحية الاستعادية، وفكرة عودة اليهود إلى أرض الميعاد. منذ زمن المهاجرين المتشددين الأوائل (بوريتان)، رأى الأميركيون أنّ بلادهم لها أهمية دينية. أعطيت على هذا الأساس آلاف المدن أسماء توراتية وكان تدريس العبرية جزءاً إلزامياً من مناهج الكليات الدراسية. تمّ التعبير عن الالتزام بالاستعادية من قبل القادة الأميركيين في وقت مبكر منذ أيام رئيس أميركا الثاني جون آدامز الذي كتب في إحدى رسائله، «أتمنى حقًا لليهود أن يكونوا مرة أخرى في يهودا كأمة مستقلة».
على عكس التحالفات الأميركية الأخرى، التي تقوم على القيم الديمقراطية والمصالح الاستراتيجية المشتركة، تتشكل الروابط بين الولايات المتحدة وإسرائيل أيضاً من خلال العلاقة الروحية بين البلدين. كان للاستعادية تأثير كبير على الرئيس ويلسون، فقد كان والده واعظاً إنجيلياً مشيخياً. فقد أيد ويلسون وعد بلفور بالرغم من نصيحة أقرب مستشاريه بعكس ذلك، وتجاهل أيضاً تقرير لجنة «كينغ- كراين» التي أرسلتها الولايات المتحدة لتقصي الحقائق في فلسطين، وأوصت بالتراجع عن وعد بلفور. تأثر ويلسون أيضاً بواقع الجغرافيا السياسية، فقد قام الجدل حول وعد بلفور في خضم الحرب العالمية الأولى عندما بدا أنّ الروس يتخلون عن الجبهة الشرقية وأنّ الولايات المتحدة كانت تفكر في الانضمام إلى المجهود الحربي في تلك الحرب. كان ويلسون متردداً أثناء حملته الانتخابية بشأن دخول الحرب، لكنه كان أيضاً قلقاً بخصوص عواقب بقاء الولايات المتحدة خارج الحرب وخارج حلقة التأثير الدولي.
كانت بريطانيا تحتاج إلى دعم الولايات المتحدة في الحرب، وبالتالي كانت على استعداد لتأجيل إعلان وعد بلفور إلى أن يوافق ويلسون عليه. كان الأخير عالماً بإمكانية أن تعلن ألمانيا وعداً خاصاً بها لليهود في سبيل دعوة الصهاينة للتحالف ودعم جبهتها. بالإضافة إلى ذلك، وبينما كان ويلسون متعاطفاً مع الصهاينة، فقد كان يقيم اعتباراً مهماً لعلاقات الولايات المتحدة مع تركيا. ففي عام 1914، ورغم أن تركيا قطعت علاقاتها مع أميركا، وانحازت إلى ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، لكن الطرفين وعدا بالحفاظ على علاقة ودية قدر الإمكان وعلى الحفاظ على مصالح الطرف الآخر. كان ويلسون ومستشاروه مترددين في دعم أي تحركات بريطانية من شأنها أن تضر بالعلاقة مع العثمانيين، وخاصة بما يخص فلسطين.
لكل ذلك فقد كان ويلسون على استعداد للاعتراف بوطن لليهود طالما أنّ الأمر سيتم بشكل هادئ. لكن لويس برانديز، وهو صهيوني يهودي وقاضي المحكمة العليا الأميركية، وصديق مقرب من ويلسون، لعب دوراً حاسماً في قلب الميزان وحث الرئيس الأميركي على إعطاء لندن الضوء الأخضر لوعد بلفور.
وهكذا، تعلم الصهاينة اليهود درساً مهماً من البريطانيين، وهو أهمية المشاورات مع الولايات المتحدة بخصوص أي أمر مهم، قبل عقود من نمو التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل طولاً وعرضاً. من هنا، وعلى الرغم من العديد من الأزمات على مدى عقود، بدأت العلاقة كشراكة هادئة بين لندن وواشنطن منذ فترة طويلة بخصوص المسألة اليهودية والدعوة الصهيونية.
العلاقات الإسرائيلية مع الجهات المعادية للسامية
إنّ وجود علاقات وثيقة بين الصهيونية مع المعادين المعروفين للسامية ليس بالأمر الجديد. الحقيقة هي أنّ العلاقة مع المؤسسات والشخصيات المعادية للسامية ليست حدثاً مستجداً في التاريخ الصهيوني، حتى مع ألمانيا النازية. سعى أبراهام شتيرن وإسحاق شامير إلى التحالف مع إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية قبل الحرب العالمية الثانية، وشكلوا مجموعة ميليشيا صهيونية متطرفة تدعى «ليهي». لم تتمكن قيادة هذه المجموعة من إقناع قوى المحور بتقديم الدعم لها وأصبحت تسمى باسم عصابة «شتيرن». وقد سجن شامير من قبل السلطات البريطانية في عام 1941 لأعمال منظمته الإرهابية. في عام 1989، وسط نزاع بين شامير وحركة «السلام الآن» الإسرائيلية، خرقت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية أحد المحرمات الوطنية بكتابتها عن صلة مقاتلي عصابة شتيرن التابعة لرئيس الوزراء إسحاق شامير وألمانيا النازية سنة 1941.
هذه الحادثة، المعروفة للمؤرخين، لا تُذكر أبداً في بلد يقدس ذكرى 6 ملايين يهودي، بما في ذلك عائلة شامير بأكملها، قتلوا على يد النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. نسب إلى شامير قوله إنّه لن يكون هناك «مخابرات سوفياتية في إسرائيل» لمطاردة نشطاء السلام الآن، فعلقت جيروزاليم بوست بما يلي: «قد يكون ذلك مطمئناً، لولا الذكرى المزعجة (لعصابة شتيرن)… التي، مع أن الحل النهائي كان جارياً (المحرقة) بالفعل في كل شيء ما عدا الإسم، سعت إلى التعاون الألماني في إقامة دولة يهودية هنا على أساس وطني وشمولي».
كما تم إغفال حادثة أخرى عندما عقد اجتماع سري في برلين بين أدولف أيخمان، مهندس المحرقة السيئة الذكر، وفيفيل بولكس، ممثل «الهاغانا»، نواة جيش الدفاع الإسرائيلي. ناقش الإثنان إمكانية نقل اليهود المضطهدين من ألمانيا إلى فلسطين. وتمثل هذه العلاقات، وكثير غيرها، مجرد حسابات سياسية من جانب السلطات الإسرائيلية، سواء في الماضي أو الحاضر. صناع القرار الإسرائيليون مستعدون لتسويغ أي معاداة للسامية في سبيل اليقين من الحصول على الدعم بالرغم من انتهاكات إسرائيل المستمرة ضد الفلسطينيين.
العلاقات الإسرائيلية مع الصهيونية المسيحية
أساس العلاقة بين الصهيونية المسيحية وإسرائيل والدعم الإنجيلي لإسرائيل لتجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم، هو الاعتقاد بأنّ الله أعطى فلسطين لليهود، وبالتالي يجب أن يكونوا في «أرض الميعاد». لكن بالنسبة للمسيحيين الصهاينة، ينظر إلى وجود اليهود في فلسطين، على أنه شرط مسبق لـ»هرمجدون» المعركة الكبرى التي تنتهي بإبادة اليهود مع أتباع الأديان الأخرى، أو تحولهم إلى المسيحية الإنجيلية، حسب رؤيا عودة المسيح الثانية الموجودة في سفر الرؤيا، الفصل الأخير من الكتاب المقدس.
الصهاينة اليهود المتدينون غير مهتمين بهذا الاحتمال على أساس أنهم غير معنيين بترهات مسيحية، في حين يبدو الصهاينة العلمانيون واثقين من أنّ مثل هذه القوى غير الدنيوية غير موجودة في الواقع لتدمير العالم وتدمير إسرائيل. ولهذا السبب انتهز صانعو السياسة الإسرائيليون الفرصة للاستفادة من دعم النزعات الأسطورية المسيحية الصهيونية، على الرغم من معرفتهم بجوهر عقيدتهم اللاسامية.
سعت إسرائيل عمداً إلى تعزيز العلاقات مع هذه الحركات ذات الطابع الشعبوي. في العام 2017، أطلقت الحكومة الإسرائيلية قمة إعلامية مسيحية سنوية لتعزيز التواصل مع الشخصيات المسيحية، بما في ذلك دعاة اليمين المتطرفون. كانت النتيجة النهائية هي إنفاق مليار دولار على دعم جماعات الضغط الصهيونية وكذلك السياسات الدعائية التي تركز على الجيش الإسرائيلي.
صحيح أنّ العديد من الصهاينة الأوائل كانوا مدفوعين بصدمة قضية «دريفوس»، التي اتهم فيها ضابط جيش يهودي فرنسي خطأ بالخيانة وطرد من الجيش، ومن ثم أرسل إلى مستعمرة فرنسية عقابية، رغم أنّ فرنسا كان يفترض أنها مستنيرة وعلمانية. كما أنّ إحدى المآسي التي خلقتها النازية هي أنّ الكثير من اليهود الأوروبيين كانوا شعروا بالانتماء الأوروبي، وهو الذي كان ينبغي أن يجعل من الهولوكوست أمراً مستحيلاً. استوعب بعض اليهود هذه الدروس الوحشية باعتمادهم صهيونية عنصرية، فخربوا بعنف حل الدولتين أو حتى دولة واحدة في فلسطين بوجود عدد كبير من السكان غير اليهود في دولة يفترض أنها يهودية.
حتى من دون هذه الأمثلة التاريخية لخيانة المؤسسات التي يهيمن عليها المسيحيون لليهود، رغم أنّها بدت ذات يوم بأنه يمكن الاعتماد عليها، فمن المشكوك فيه إن كان يمكن الآن الرهان على استقرار الديموقراطية في الدول الغربية بظل عودة التطرف العنصرية من جديد. أصبحت نظريات السيطرة اليهودية على الولايات المتحدة واضحة الآن داخل بعض الكنائس، حيث تحتك الحكايات القديمة حول النفوذ اليهودي في السياسة بالرواية الدينية حول صلب المسيح. ومنذ مدة قصيرة، تم تهديد محطة تلفزيونية إنجيلية بالإغلاق لعدم اعترافها بأن هدفها الحقيقي هو الدعوة إلى تنصير اليهود.
تفسير الكتاب المقدس
القضية الأخرى تعود إلى كيفية تفسير الكتاب المقدس، وما هو شكل معركة «هرمجدون». فكما هي الحال في جميع الأديان، يستحضر الكتاب المقدس بتفسيرات مختلفة مجازية حتى وإن استندت إلى النص. كان احتلال الجيش الإسرائيلي للقدس الشرقية في عام 1967 هو الذي أجج النشوة الإنجيلية لفكرة استعادة اليهود لفلسطين. كان هذا الأمر مصدراً للحماسة الإنجيلية منذ حرب عام 1967 حول تحقيق نبوءة توراتية يعيد فيها اليهود بناء الهيكل الثالث بجانب حائط المبكى في جبل الهيكل. غير أنّ هذا المشروع يتطلب تدمير مسجد قبة الصخرة، وربما المسجد الأقصى المجاور، بحيث يكون هناك يقين تام بنشوب حرب كبرى إذا ارتكب القادة الإسرائيليون أو سمحوا بارتكاب مثل هذه الأعمال. حتى جهاز الأمن الإسرائيلي يدرك التهديد الخطير الذي تشكله الجماعات الإرهابية اليهودية اليمينية المتطرفة التي سعت منذ فترة طويلة إلى إحداث هذا الأمر. فقد تم إحباط مؤامرة عام 1984 من قبل إرهابيين يهود في اللحظة الأخيرة بعد أن كانت تنوي تفجير خمس حافلات مليئة بالفلسطينيين، فكشفت التحقيقات اللاحقة عن خطط متقدمة لتفجير قبة الصخرة. وعلى الرغم من عدم وجود صلة مباشرة بين هذه المنظمات الإرهابية اليهودية والإنجيليين، إلا أنّه هناك توافق أهداف آراء الشخصيات المتطرفة في كلا المعسكرين حول مشروع مجنون كما سبق.
إنّ ثقافة الرقابة على وسائل الإعلام في الغرب في ما يتعلق بفلسطين، والادعاءات الكاذبة بمعاداة السامية ضد من يدافع عن حقوق الفلسطينيين، خنقت حرية التعبير التي قد تسمح لليهود الناقدين وغيرهم بالتحذير من مخاطر دعوات الأصدقاء الزائفين لليهود الذين يخدمون في الواقع أنفسهم في التحدث نيابة عن اليهود بحجة الدفاع عنهم.
لقد أدى كل ما سبق إلى انكفاء أولئك الذين يهدفون إلى التضامن مع اليهود ضد معاداة السامية ومع الفلسطينيين ضد العنصرية الصهيونية. إن الكذبة الصهيونية القائلة بأن المسلمين والعرب معادون لليهود بطبيعتهم لمنع دعم حقوق الفلسطينيين بشكل طبيعي قد لوثت الفكر الغربي السائد، وكان هاذ الأمر ملائماً للمؤسسات المسيحية الثقافية وهي التي كانت دائماً أشرس مرتكبي معاداة السامية في العالم.