IMLebanon

المسيحية شهادة وجود وطنية لبنانية

يتصدر المسيحيون اللبنانيون واجهة الحركة السياسية اليوم، ويظهرون حاجة ملموسة إلى هذه الحركة، هم الذين تدفعهم الرغبة في الانتقال من موقع وجدوا كتلة مصالحهم فيه، بعد اتفاق الطائف المعروف، إلى موقع سياسي أفضل، يتوسمون في الإطار السياسي المحيط به ظروفاً أفضل تجعل احتلاله أمراً ميسوراً. تتوسل الحركة المسيحية هذه أساليب عمل مختلفة تجمع بين الاقتراح الشفوي والمبادرة المكتوبة، وبين النشاط العملي المدروس، وتحرص على ديمومة الدينامية السياسية بحيث لا يتسع النشاط لفجوات زمنية تجعل ما قبله منقطع زمنياً عمّا بعده، أي أن الحركية السياسية لا تسمح بزمن للنسيان، بل تستغل سلاح الهجوم بالوقت كي تراكم ترسبات سياسية في آذان السامعين وفي أفهامهم. هذه النشاطية تحسب «للمسيحية» العملية، التي تحاول إحياء وبعث شيء من عصبيتها الكيانية التأسيسية، ذلك أنها، أي المسيحية، ما زالت تعلن أنها تمثل دور القابلة الأولى في الكيان اللبناني، وأنها ما زالت تتمسك بهذا الدور الذي تعرض لخسائر واسعة، على يد أبنائه وعلى يد سائر الأشقاء الآخرين.

وإذ لا يجب إسقاط أو تجاهل ديمومة المسيحية بوجودها، كتعبير واضح وجليّ عن ديمومة ما جرى التعارف عليه من وطنية لبنانية، فإن تسليط الضوء على الوجود المسيحي بذاته، يصير لازماً وواجباً قبل الحديث عن الحضور السياسي لهذا الوجود. ما يملي ذلك، أو ما يجعله متقدماً، هو أن وعي مسألة الوجود المسيحي في الكيان اللبناني، هو المدخل إلى وعي السياسات السليمة الكفيلة بتأكيد الاهتمام بهذا الوجود، وبتأكيد ماهية سياسات الحفاظ عليه ككتلة «تاريخية» كان لها مسار حضور محدد، وكان لها إطار تحديد معين، وكان لها فهم لذاتها ولتاريخها ولعلاقتها بالآخرين، اجتهد فأصاب مرات، واجتهد فأخطأ مرات، لكن ظلَّ اجتهاده الأصوب والأهم، وفق آلياته، نجاحه في قبول تحدي الإنضمام إلى «لبنان الكبير»، الذي أخذ من الخصوصية المسيحية «الجبلية»، وأضاف إليها من خصائص طوائف الأقاليم المضافة إلى «المركز» الجبلي الصغير. في ميدان قبول التحدي هذا ما زالت تسعى المسيحية كوجود وكحضور سياسي، وفي ذات الميدان ما زالت المسيحية تؤكد، أن وجودها المادي ككتلة ديموغرافية سياسية ثقافية، يشكل الشهادة الأولى في مصلحة التنوع والتعدد مما يتسابق لبنانيو اليوم في كتابة قصائد مديحه، وإن كانوا يكثرون من قصائد هجائه في ممارساتهم اليومية.

بعد شهادة الوجود، تأتي إدارة هذا الوجود في شؤونه وفي مصالحه، كشهادة ثانية على اتساق نسق قبول التعدد والتنوع، والمساهمة في بلورة وتطوير هذا النسق، والكفّ عن تهديده كشرط وطني اتفاقي، أو التهديد بالارتداد عليه، أي على أسس التوافق الوطني الوجودي التي قام عليها بنيان الوطن الصغير السياسي، الذي صار كبيراً، وبات يحتضن رسمياً، وجود كل الطوائف. لكن، وكما تقدم، تتطلب إدارة الوجود الديموغرافي، فهم هذا الوجود ووعي شروطه التي جعلته موجوداً، أي وعي ما يحيط به من «موجودات» أخرى، وفهم كيفية وجودها وشروط تواجدها ككتل ديموغرافية سياسية ثقافية، تشبه الوجود المسيحي حيناً، وتفارق التماثل معه أحياناً أخرى. الفهم الوجودي الأول الذي يساوي فهم الذات، يقابله فهم الوجود الآخر لذوات أخرى، ومن الفهمين مجتمعين تُشتق سياسات إدارة الوجود كحالة مختلفة، واستنباط العلاقات مع «الوجودات» المقابلة كمواضيع قائمة بذاتها، ومن كل ذلك نشأت لبنانياً علاقات التعايش والتساكن والتوافق، وعلى هذه الكلمات الدالة وسواها، بنيت وتبنى آمال وطموحات الإندماج على مستوى هوية مواطنة جامعة تتجاوز، في وجودها وفي حضورها، كل الحالات «الهوياتية الوجودية» الخاصة.

نسخ القوى السياسية التي تمثلت مصالح الوجود المسيحي طيلة العهود الاستقلالية، تنوعت مقارباتها، وإذ أفلح بعض هذه النسخ في اقتراح وممارسة سياسات وطنية، ودائماً بمعنى الانتماء إلى كيان، فإن بعضاً من النسخ الأخرى أخفق في اقتراحاته وفي ممارساته. ثمن النجاح كان معلوماً وأثمان الإخفاقات باتت معروفة، وإذا كان الاستقرار في الصيغة وفي الكيان، هو من أهم ثمرات النجاح، فإن اهتزاز التوافق الكياني، وقلق المكونات اللبنانية واستثارة هواجسها، كان الدليل الأوضح على حصاد علقم الفشل السياسي الذي وصل إليه بعض من تصدى لقيادة المصالح الوجودية المسيحية.

حالياً، تبدو نسخة القيادة السياسية المسيحية غير قادرة على الإحاطة الشاملة بوعي معاني وجودها، وإلى جانبها، تبدو القيادات الإسلامية متراجعة عن قبول فهمها لمعنى الوجود المسيحي، وعاجزة عن اقتراح صيغة جديدة مقبولة ومعتدلة تؤسس لتوافق كياني مسكون بحقائق المتغيرات، لكنها، أي الصيغة، ممتلئة أولاً وأساساً بفهم شامل بنده الأساس: أن لا معنى للبنان اللبناني، ولا تجديد لهذا المعنى، ولا إمكانية لصياغة تعريف الوطنية اللبنانية القديمة – المستمرة، من دون المساعدة في ترسيخ معنى الوجود المسيحي، أي ترسيخ معنى التعدد والتنوع الذي ينشد إندماجاً وطنياً مستقراً لا تعصف به بين حين وآخر، رياح الأزمات.