IMLebanon

خطأ جغرافي أم حقيقة تاريخيّة؟

 

«إنّ هذا البلد الصغير (لبنان) الذي استطاع أن يقاوم الدهور وأعاصيرها هو حقيقة جغرافية وتاريخية، وهو أيضاً كيان طبيعي ووجود قديم ومستمر، أوجَدته الجغرافيا والإتنية والتاريخ». (جواد بولس)

مئة عام مرّت على إنشاء لبنان الكبير، مئة عام وما زالت الاسطوانة نفسها تتكرّر عند البعض، كلّما انطرحت مسألة ترسيم الحدود، «لبنان خطأ جغرافي»، فهل لبنان هو حقيقة تاريخية أم خطأ جغرافي؟

يعتبر كثير من اللبنانيين أنَّ الحجر الأساس للبنان الحديث قد وُضع في عهد الإمارة المعنية، وتحديداً في عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير، وهذه النظرية سليمة نظراً لأنّه حكمَ معظم مناطق الهلال الخصيب وجميع الأراضي التي تضمّ مناطق لبنان المعاصر في حدوده الحالية باعتراف الدولة العثمانية ورضاها.

 

صحيح أنّ اللبنانيين قد نعموا بالرخاء في عهده، لكن وجب علينا معرفة الإطار الأكبر الذي سمح لإمارة فخر الدين بالتوسّع والازدهار.

 

عاد الغرب الى الاتصال بالشرق بعد انقطاع دام نحو قرنين ونيّف، وكان الاتصال من خلال الموارنة بدأ في عام 1450 وتطور تدريجاً إلى أن بلغ أوجَهُ بتأسيس المدرسة المارونية في روما عام 1584، (العام الذي شهد مقتل قرقماز والد فخر الدين)، وكان لتلك المدرسة الفضل الأكبر في تخريج العشرات من طلابها المتميّزين، فانتشر عدد منهم في معظم جامعات أوروبا، يعلّمون اللغات الشرقية، فأغنوا الغرب بما نقلوه إليه من كنوز ثقافية ومعلومات قيّمة عن الشرق. وقد أدى البعض منهم دوراً مهماً في التقارب بين الأمير ودوق توسكانا، الذي استضافه طوال مدة نَفيه، وعاوَنه على استعادة إمارته، وزوّده بالمهندسين والخبراء الذين ساعدوه في إطلاق نهضة اقتصادية وثقافية وعمرانية عمّت كل البلاد.

 

فبعد زوال الإمارة العسافية، ساءت حال الموارنة نتيجة إيكال ابن سيفا أمور مناطقهم إلى عشيرة آل حمادة الشيعية، التي نزحت من بلاد أذربيجان إلى قمهز في جبّة المنيطرة، قُبيل الفتح العثماني، على أثر افتتاح العثمانيين تبريز عام 1514. نفرَ الموارنة من حكم ابن سيفا وآل حمادة، فتلاقت مصالحهم مع مصلحة فخر الدين، فأتَته الظروف وامتدت سيطرته على مختلف البلاد، وقد حذا في سياسته حذو الأمراء العسافيين وأحاط نفسه بمستشارين من الموارنة، وعلى رأسهم آل الخازن. فأمّن الموارنة، كنيسة وشعباً، للأمير الدرزي، وأصبحوا أنصاراً له حيثما كانوا. ولم يطل الوقت حتى تمكن فخر الدين من طرد يوسف سيفا من بيروت عام 1598، والاستيلاء على كسروان نهائياً عام 1605، فصار له قاعدة حكم في بلاد الموارنة.

 

توطّدت العلاقة بين الطرفين، وانتقلت زعامة كسروان إلى آل الخازن الموارنة عام 1615. كذلك، جَمَعَت البطريرك الماروني يوحنّا مخلوف، المُنتخَب سنة 1608، بفخر الدين صداقة متينة، فأقام في المعوش الشوفيّة وباتت تُعرف بـ»مجد» المعوش، وعام 1610 بعثَ البابا بولس الخامس برسالة إلى البطريرك الماروني يحضّه فيها على توطيد العلاقة.

 

أتاح هذا الاتفاق فتح المجال أمام الموارنة للانتشار في كل المناطق اللبنانية، وبدأوا بالنزوح إلى المناطق الدرزية. وكان الأمير شديد الاهتمام بإنتاج الحرير، وتطوير الزراعة التي امتهنها الموارنة وطوّروها عند انكفائهم إلى جبّة بشري بعد الحملة المملوكية عام 1305، فساعد نزوح الموارنة إلى المناطق الدرزية في تقوية هذا الإنتاج، إذ استقر الفلاحون منهم في المزارع حيث اشتغلوا في تربية دود القز، وأحسنوا استثمار الأرض وتملكوا قسماً منها، أمّا بعضهم الآخر فاستقرّ في القرى الكبرى وبيروت وصيدا حيث اشتغلوا في تجارة الحرير.

 

وكانت الحركة التجارية قد نشطت بين البلاد العثمانية وبلاد الغرب خلال تلك الحقبة، فازداد الطلب على إنتاج جبل لبنان من الحرير. وقامت عن طريق الحرير مصلحة اقتصادية مشتركة، تجمع بين الموارنة والإمارة المعنية، وتوطدت وحدة الحال بين الطرفين، إذ أصبح نشاط الفلاحين والتجار الموارنة قواماً لاقتصاد الإمارة. فأصبحوا شركاء في الحكم، ولهم نفوذهم، وساهموا في ازدهار الإمارة، اقتصاديًا وثقافيًا وديموغرافيًا، وعمّروا الكنائس والأديار والمدارس، وبفضل تلامذة المدرسة المارونية في روما، الذين عادوا إلى لبنان وكانوا رسل المعرفة والعلم والحداثة، أسسوا لنهضة ثقافية شاملة سوف تنعكس على لبنان والشرق بأسره، فكانت مدرسة حوقا عام 1624، ووصلت أول مطبعة إلى الشرق، وبعدها انتقلت الإمارة من المعنيين إلى الشهابيين عام 1697، والتزم الموارنة تأييد الإمارة الشهابية، وسانَدوا الأمير حيدر في معركة عين دارة عام 1711، حيث انتصر القيسيون على اليمنيين في شكل حاسم، وثُبّتت الإمارة الشهابية التي ضمّت سهل البقاع ومدينة بيروت إلى الجبل، فأمّنت إلى حد كبير الإكتفاء الذاتي وإمكانية التواصل مع الغرب. وقد وصل العديد من تلامذة المدرسة المارونية إلى سدّة البطريركية، وكان المجمع اللبناني عام 1736 وإقرار مجانية التعليم وإلزاميته لأبناء الطائفة، وأُنشِئت مدرسة عين ورقة، أمّ المدارس في الشرق.

 

وعلى الصعيد الاستقلالي، طلب فخر الدين من البطريرك مخلوف أن يؤمّن له وسيلة اتصال بالفاتيكان، للاتفاق مع قداسة البابا على سياسة مقاومة العثمانيين. وضع البطريرك تحت تصرّفه رئيس أساقفة قبرص المطران جرجس بن مارون، الذي كلّفه الأمير مهمات سياسية في روما وتوسكانا وإسبانيا، بعدها اصبح ابراهيم الحاقلاني مندوب فخر الدين السياسي في توسكانا من خرّيجي المدرسة أيضا.

 

ولمّا وصلنا إلى القرن التاسع عشر، قرن التحوّلات الكبرى، سقطت الإمبراطورية الرومانية المقدّسة، وكان مؤتمر فيينا الذي هَدف إلى رسم الحدود وإعادة تحقيق التوازن في أوروبا، واستعادت البابوية بعضَ ما خسرته في صلح وستفاليا قبل نحو مئتي عام، وتمّ تكريس حياد سويسرا، وبدأت تتجلّى تداعيات الحصار القاري الذي فرضته فرنسا على بريطانيا بتفجّر النزاع في مختلف أصقاع العالم، بحثاً عن المدى الحيوي الاقتصادي لكلا البلدين في الأميركيتين وشرق آسيا ونيوزيلندا، فمن يقرأ التاريخ يرى تَشابه الأحداث في الحرب الأهلية الأميركية، وفتنة 1860 والحروب النيوزيلندية. وبرزت المسألة الشرقية وتنازع الدولة الغربية على أملاك الأمبراطورية العثمانية، فتفجّر النزاع بدعم الإنكليز للدروز والفرنسيين للموارنة، وقد تزامنت هذه الحقبة مع وصول بولس مسعد إلى كرسي إنطاكيا، تلميذ عين ورقة ومدرسة البروباغاندا التابعة للجامعة الأوربانية البابوية (حين تخرّج منها كانت تحت إدارة الجازويتيين)، فكانت سلطته كبيرة، واستقطبت الرهبانيات في عهده ضمّ الفلاحين وبرزت كقوة اقتصادية، وكان لبكركي نشاطها أيضاً، فتحوّلت الكنيسة من الشريك الأضعف للمقاطعجيين إلى الشريك الأقوى، وعاد البطريرك لتأدية الدور الأقوى، فكان عرّاب الحل في ثورة الفلاحين ضدّ المشايخ، وفي عهده حصلت مجازر 1860، وبرز نظام المتصرفية، حيث طالبَ البطريرك بحدود جبل لبنان التاريخية، فبرزت خريطة لبنان التي تضمّ «إصبع الجليل» وحرمون، حيث أنّ قرى «الإصبع» هي مارونية. وقد شهد هذا القرن وصول الإرساليات الأجنبية إلى جبل لبنان، ووصلت معها الأفكار الحديثة، كالقومية والليبيرالية… وتحوّل جبل لبنان «مختبراً» تتنازَع فيه 3 تيارات قوميّة، اللبنانية والعربيّة والسوريّة، وبقي التنازع على الحدود إلى حين عَقد اتفاقية سايكس- بيكو، حيث أهدى الإنكليز «إصبع الجليل» للوطن القومي اليهودي لكي يحصلوا على أرض الميعاد في انتظار مجيء السيّد المسيح، والقوميون العرب والشيعة ينتظرون خروج المهدي من سرداب الغيبة في العراق وانطلاق المعركة من جبل عامل، والمسيحيون مؤمنون بالمسيح المتجسّد منذ 2000 عام.

 

إذاً، تبدو المعركة واضحة في هذا الشرق حول المسيح سيّد التاريخ! هذا المسيح، الذي مملكته ليست من هذا العالم، هو من قَلَب المقاييس وحوّل الإنسان من فطرة إلى إرادة. وعن دور المسيحية ورسالتها في هذا الشرق، استشهاداً بالأب ميشال حايك الذي قال: «قلّة أصبحت المسيحيّة في الشرق ولكن ما همّ في ذلك، النّخبة دوماً قلّة… فبين المسيحية والشرق علامات لن تنفصم عُراها. فالمسيحيّة باقية طالما المسيح هو نفسه «الشرق»، من الشرق بدأت المسيحيّة وانطلقت إلى أقاصي الأرض… المسيحيّة وحدها تستطيع أن تركّز مصيرنا ومصير هذا البلد المسمّى لبنان… فنحن كمسيحيين لا نستطيع انحيازاً إلّا لِما هو محبّة… إنَّ نهاية الموارنة ستكون بداية نهاية المسيحية المشرقية التي تعني الحكم بالموت على كل الإتنيات والمجموعات الثقافية التي تشكّل الفرص الفضلى للشرق لكي يستطيع الخروج من القرون الوسطى الجديدة التي يمكن أن يسقط فيها. في اختصار، إنّ مشروع الإنهاء الجسدي للموارنة أو حتى الإنهاء السياسي والفكري، يشكّل اعتداء على كل الشرق، وبالتحديد على العروبة الإسلامية».

 

إذاً، إنّ الوجود المسيحي في هذا الشرق هو ضرورة، وهذا البلد لبنان هو صنيعة المسيحيين، خصوصا مع تزايد الحديث عن لوبي مشرقي يُسوّق لدى مجلس الأمن وعواصم القرار حياد لبنان وسيادته على أراضيه، والعمل للوصول إلى مجتمع تعدّدي يحفظ حقوق الأقلّيات وينادي باقتصاد ليبيرالي منتج، كما ويعمل على إبراز خصوصية بعض المناطق من كورماكيدس إلى إصبع الجليل المارونيتين، مروراً بسهل نينوى وطورعابدين وصولاً إلى كارباخ. فقطار التغيير سار ولن يتوقف، والوضع اليوم شبيه بالقرن التاسع عشر. ففي زمن التحولات الكبرى يجب على الأقليات أن تحمي نفسها وتصبح «حاجة» للدول الكبرى، وإلَّا فالحل سيكون على حسابها… وهنا نعود للمنشور الذي قرأه ريمون إدّه في سويسرا، الذي يقول «إنّ ما حَمى سويسرا خلال الحرب العالميّة الثانية كان الحياد والسرية المصرفيّة».