في الإيحاء، يُذكِّر الفصح بأنّ الشرق هو الأرض التي جرت عليها حوادث العذاب والموت والقيامة. وهذا العام، يجتاز الشرق الأوسط مرحلةً يتقرَّر فيها مصيره، بكياناته ومجموعاته العرقية والطائفية، ولا سيما منها ما يخصّ مسيحييه. ومن هذا المنطلق، يجتاز مسيحيو لبنان مرحلة تأسيسية، ليس في كيانهم الصغير فحسب، بل في سائر المشرق أيضاً. فهل هم في مستوى التحدّي؟ وبأي قيادةٍ ومشروعٍ يفاوضون الشركاء؟
واضح أنّ القيادات المسيحية تعيش استنفاراً، تحسباً لـ»شيء ما». هذا الاستنفار شبيه بالقلق الذي تبديه الكائنات عموماً في الطبيعة، عندما تشعر بكارثة آتية – زلزال مثلاً- فتتحرك فطرياً لدرء المخاطر.
ولكن، عموماً، هذه القيادات لا تتحرك لدرء الخطر عن الجماعة، بل لدرء الخطر عن نفسها، على المستوى الصغير ومستوى الصغائر، وتوفير المستقبل الآمن، لا للجماعة بل لنفسها، خصوصاً في ظل التحولات الآتية، وعلى أبواب العام الأخير من ولاية الرئيس ميشال عون. فهذا موسم مثير للزعامات المسيحية إجمالاً، وفيه تتهافت على وراثة الزعامة المسيحية، لكنها لا تتهافت من أجل إنقاذ الوضع المسيحي واللبناني عموماً.
المسيحيون لا يسمعون من زعمائهم أفكاراً ومشاريع إنقاذية، بل اتهامات بالفساد وبالتهافت على الحصص والمكاسب الخاصة. وفيما الشرق كله قيد ولادة جديدة، هاجس زعماء الموارنة يبدو محصوراً بالزعامة، وبرئاسة الجمهورية.
في «تفاهم معراب»، تم التفاهم على تقاسم الزعامة، طبعاً كلّ بحسب مفهومه لها. ولكن، «نحن نمثّل 70% من المسيحيين». وبدلاً من ذلك، لو تمّ «التفاهم» على مستقبل لبنان والمسيحيين لما انهار سريعاً.
كان التفاهم «ملغوماً»، وخبّأ كلّ من طرفيه أهدافاً أخرى: عون يريد الوصول إلى بعبدا وتأمين الوراثة لباسيل، وجعجع يريد استخدام المصالحة منصة للدخول في عمق الشراكة في السلطة، فتؤدي هذه التغطية إلى أن جعل «القوات»، لاحقاً، الطرف الأقوى تمثيلاً للمسيحيين، وتالياً يكون هو الخلف «الطبيعي» لعون في بعبدا.
طبعاً، لم تجرِ الرياح كما تشتهي سفن «الحكيم»، لأن عون رتّب لـ»التفاهم» أهدافاً أخرى. وسرعان ما تحرَّك لحجز موقع رئيس «التيار» جبران باسيل الذي يقول اليوم كما قال عون قبله: «أنا زعيم التيار المسيحي الأقوى، وحليف الطرف اللبناني الأقوى. إذاً، لا رئاسة جمهورية إلا من خلالي، ولا رئيس إلا أنا».
في اعتقاد عون أنه يستطيع إيصال باسيل ما دام مرتكزاً، مثله، إلى دعم «حزب الله». وإلا فليبقَ عون في موقعه، وتتأجل الانتخابات الرئاسية، شهوراً وعاماً وعامين، كما حصل عند انتخابه. وفي تقديره أنه قادرٌ على البقاء في الموقع، بلا سقف زمني، ما دام مدعوماً. والفتاوى الدستورية جاهزة، ولا أحد قادر على إسقاطها ما دام البلد في أيدي الأقوياء.
إذاً، في العام 2021، وفيما البلد كله انهار، ما زال قادة المسيحيين يرتكزون إلى حسابات «قديمة» لبناء توجهات مستقبلية. ففي أزمنةٍ وأمكنةٍ تتحرّك سريعاً، مَن يَضمَن مصير البلد والجمهورية أولاً، وقبل مصير الرئاسة؟ وهل منطقي أَن تقتصر هموم الزعماء على الصغائر بدلاً من أن ينكبّوا على صوغ رؤية إنقاذية للوضع اللبناني، وللوضع المسيحي تالياً، وسط التحوّلات المفصلية المقبلة على الشرق الأوسط.
وفيما المطلوب أن يستخدم كل طرف رصيده مع الولايات المتحدة وأوروبا وإيران وسوريا والخليجيين العرب لحماية الفكرة اللبنانية، ووقف النزف الديموغرافي المريع الذي يصيب الجماعة المسيحية، يبحث هؤلاء عن صِيَغ لتبرئة النفس من الفساد وللنميمة ضد الآخر وضمان الحصص والغنائم.
مثلاً، يعتقد باسيل اليوم أنه يحظى بتغطية «حزب الله» وحلفائه الإقليميين لزعامته المسيحية وللرئاسة، ويرتاح إلى أن جعجع «غريمه» المسيحي يفتقد أي تغطية فاعلة، حتى من حليفه القديم سعد الحريري. وفي المقابل، يرتاح جعجع إلى «الفيتوات» الأميركية والغربية والخليجية والعقوبات على باسيل، ويراهن على أنها ستضعفه وتفقده الحظوظ في الرئاسة.
طبعاً، على يمين باسيل وجعجع ويسارهما كثير من الموارنة الطامحين والمراهنين والمنتظرين. وللمناسبة، صحيح أن «الرئيس الوسطي» مات برحيل رمزه الأبرز، جان عبيد، وهو مات بالمعنى السياسي أيضاً، ولكن، ليس مضموناً أن «الرئيس القوي» مكتوب له النجاح مستقبلاً. وقد تصبح الرئاسة ذات يومٍ «يتيمة» للتعذُّر.
في المأزق، ربما لا يظهر ضوء سوى في الحراك الذي تتولاه بكركي حالياً، لأنه مبني على فكرة واضحة للبنان، وليس على التجاذبات الصغيرة.
في طرح بكركي رؤية للهدف (حياد لبنان) ورؤية للبرنامج (مؤتمر دولي). وهذا الطرح يمكن تجييره كورقة على أي طاولة نقاش حول مستقبل الشرق الأوسط ولبنان ومسيحييه.
أهمية هذا الطرح أنه ليس مرهوناً لمحور خارجي. ونقطة قوته أن البطريرك بشارة الراعي لا يطمح من خلاله إلى حصة في السلطة. ولكن، نقطة ضعفه تكمن في أن الإجماع المسيحي حوله ربما يكون «ملغوماً» أيضاً، وظاهرياً.
طرح بكركي حيوي لأنّ جوهره هو دور لبنان ودور مسيحييه في النظامين الإقليمي والدولي. وإذا جرى احتضان هذا الطرح، فسيكون صالحاً لتقرير دور لبنان ومسيحييه، وتالياً مصيرهم.
في الفلسفة اللبنانية – الوظيفية، تكتسب العناصر مبرِّرات وجودها وحجمها ودورها من خلال عضويتها، كوحدةٍ في بناء النسق الكبير ووظيفتها فيه. وتالياً، يكون دور لبنان ومسيحييه ووظيفتهم في بناء الشرق الأوسط الآتي، وفي النظامين الإقليمي والدولي هو التحدي الحقيقي.
إذا كان المسيحيون سيواصلون التخبط حول الزعامة والثروات الشخصية والعائلية، فطبيعي أن يبقوا غافلين عن هذا البُعد الوطني والقومي، الفلسفي والإنساني، الذي سبق أن سلّط عليه الضوء مفكرون مسيحيون في لبنان. وكذلك، أولاه البابا يوحنا بولس الثاني أهمية فائقة، في الإرشاد الرسولي منتصف التسعينات من القرن الفائت، وفي زيارته الرعوية للبنان.
التحدّي أمام مسيحيي لبنان أكبر من التحدّي أمام مسلميه، لأن لا امتداد طائفياً لهم في الشرق ولا قومياً في الغرب. وسيكون عليهم أن يبادروا قبل فوات الأوان. فإمّا أن يصنعوا القيادة الجديرة بتحقيق الهدف، وإما أن ينقادوا في مشروع القضاء والقدر.