عندما غادر الجيش السوري لبنان عام 2005، لم يتأخر الناس في إعادة تموضعهم بعد 15 سنة من الاصطفاف «نصف القهري». صحيح أن القبائل اللبنانية ماهرة في ترتيب مقاعدها ضمن قاعة النظام نفسه، لكن التبديل حصل في القاعة نفسها، إذ غادرها من نصّبتهم سوريا ممثلين عن المسيحيين خلال فترة إدارتها الملف اللبناني بتوافق كامل مع الولايات المتحدة الأميركية والسعودية وفرنسا. وخلال أسابيع قليلة، دخل القاعة نفسها، ممثلون هم أقرب الى حقيقة ما تريده غالبية مسيحية في لبنان. لكن الفكرة الثابتة في كل ما جرى، هي أن الجميع عادوا وانتظموا داخل قاعة النظام نفسه. وفي هذه المرحلة، كان هناك لاعب أساسي، قامت فكرته وفعاليته على ما هو نقيض لهذا النظام، هو حزب الله. لكن آليات عمله في الداخل لم تجعله في موقع الساعي الى تغيير جذري للنظام. وكل ما فعله أنه كان يمنح نفسه عذر الغياب عن القاعة إياها، لاقتناعه بعدم فعاليتها من جهة، ولعدم خشيته من الموجودين فيها بسبب وجود الناظر السوري على باب القاعة. أما وقد تقرر تقاعد الناظر، والإتيان ببديل منه من دون توافق جدي، اضطر حزب الله الى الحضور الكثيف داخل القاعة، لكنه اختلف مع الآخرين على هوية الناظر الجديد.
عملياً، تحقّق تبدّل جدّي لا شكليّ في صورة المحتلين لمقاعد النظام. خرجت قوى وجهات وشخصيات ودخل بدائل منها. وهو أمر انعكس أيضاً على الوجود في الباحة الخارجية. وكان الأبرز في كل ما حصل، هو ما شهده الناس في نوعية ومستوى التمثيل عند المسيحيين بصورة أساسية، وبعض التحوّل عند المسلمين، لكن في ما خص خطابهم وليس تمثيلهم. لأنه منذ عام 2005 الى آخر انتخابات، لم يطرأ أي تبدل جوهري في طبيعة التمثيل عند الشيعة والسنة والدروز، كما عند باقي الأقليات. وبعدما استوى الجميع على مقاعدهم المحدثة، أطلقت صافرة العمل من جديد. وفي غضون أشهر قليلة، قامت تحالفات جديدة بين الحاضرين في القاعة، ما خلق إرباكاً وارتفاعاً للأصوات وإشكالات انتهت الى ما صرنا عليه يوم انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية.
سيظل ضرورياً العمل على مراجعة وفهم حقيقة ما حصل. لكن الانفجارات المتتالية للأزمات في لبنان، دفعت بالجميع الى جدول أعمال ببنود جديدة. على أن التحول كان في أن خروج سوريا من لبنان لم يكن خطوة من طرف واحد. لم تخرج سوريا بمبادرة منها ولا بإرادتها. إنما ضمن سياق له بعده الداخلي اللبناني وله عناصره وقوته الخارجية، عربياً ودولياً. لكن بعض الداخل وغالبية الخارج، كان يفترض أن خروج سوريا لا يعني إبعاد ناصر قنديل عن مجلس النواب، بل يعني إخراج المقاومة من المعادلة اللبنانية. والعرض المستمر من يومها الى الآن، يقول بأن الخارج وبعض الداخل، وحضور الطرفين غير عادي داخل قاعة النظام، يعرضان تسوية جديدة لتنظيم العلاقة بين القبائل اللبنانية، لكن بشرط اعتبار حالة المقاومة أمراً لا علاقة له بهذا البلد. وبالتالي، فإن القبائل المسيحية والسنية والدرزية وغيرها، لا تزال تعرض على ممثلي القبيلة الشيعية، أن يختاروا من يشاؤون ليمثّلهم داخل قاعة النظام، إنما شرط إبعاد المقاومة. وطلب الإبعاد لا يتعلق بعدم الدخول الى القاعة نفسها، بل طردها من الباحات الخارجية أيضاً، واعتبارها ملحقاً بالجيش السوري كان يجب أن ترحل معه… وبعد المحاولات الحثيثة بين عامَي 2003 و2006 (منذ غزو العراق إلى ما بعد اغتيال رفيق الحريري) وجدت القبائل اللبنانية أن هذا المطلب يتطلّب علاجاً ليس متوافراً لديها، فأقرّت بمقترح عربي ــــ أوروبي ــــ أميركي يقول بأن تتولّى إسرائيل تنفيذ المهمة وفق القاعدة الآتية: غالبية القبائل اللبنانية ترفض بقاء المقاومة، مع استعداد لتعديل التمثيل داخل القبيلة الشيعية، بغطاء دولي لعمل عسكري له طابع إنقاذي… فكانت حرب عام 2006.
لا أزال أذكر الى اليوم نقاشات جرت مع من كان يومها في قلب العقل المنظّم لحركة 14 آذار، وهي نقاشات ظلت تقوم على فرضية هؤلاء بأن الحرب محسومة النتائج: سحق المقاومة، وإعادة إنتاج تمثيل مختلف للقبيلة الشيعية.
مدنيّو 17 تشرين أمام استحقاق التمايز الفعلي عن حشود الطائفيين وعملاء السفارات الساعين إلى إعادة إنتاج الحرب الأهلية وتكرار تجربة التقسيم بحماية الخارج
حصل ما حصل، وفرط المشروع. لكن الشبيبة لم ينتبهوا الى أنهم خسروا الحرب، لا الجولة فقط. إسرائيل لا تزال تحاسب نفسها وتحبس أنفاسها كلما تذكّرت هذه المغامرة، والغرب يطلب «إذناً» لنشر قوات دولية على الحدود الجنوبية في لبنان. لكن في لبنان مَن لا يزال يعتقد بأن العملية فشلت نتيجة سوء في التنظيم ونقص في المثابرة الأميركية والإسرائيلية. تماماً كما هي روايتهم عن سوريا: لقد خذل المجتمع الدولي الشعب السوري. وكأنّ العالم لم يفعل كل ما في وسعه لقلب المشهد هناك وفشل!
ها نحن اليوم أمام الدورة نفسها. 15 سنة بين عام 1975، تاريخ اندلاع الحرب الأهلية وعام 1990 تاريخ إقرار اتفاق الطائف؛ ثم 15 سنة ثانية تحت رحمة التفاهم الأميركي ــــ السعودي ــــ السوري ــــ الأوروبي، انتهت في عام 2005 باغتيال رفيق الحريري وحرب تموز المجنونة؛ وبعد 15 سنة نقف اليوم، عند تاريخ جديد عنوانه انفجار 4 آب… هي 45 سنة من عمر الصراع الجديد بين القبائل اللبنانية، لكن مع استعداد لجولة جديدة. وهذه المرة، ثمة من يعود الى دفاتره القديمة: اتركوني عيش لحالي!
في 17 تشرين، كما في 14 آذار، تمظهرت شعارات كثيرة لحراك شارك فيه من اعتقد أنه يسعى الى تغيير شامل وإلى التخلص من النظام الطائفي وبناء الدولة المدنية. لكن 17 تشرين انتهى الى حشد الجموع في عنابرها القبائلية. تقرّر أن الأمر يكون على شكل قدّاس يقوده شريك فاعل للمنظومة الحاكمة وراعي المنظومة المالية بشقّيها المصرفي والتجاري وقائد ثورة الحياد، بعدما انتصف ذلك النهار بتمرين لفاشيي «القوات اللبنانية» استعداداً لما هو أعظم. والمشكلة هنا أن ما حصل في 4 آب لم يكن، ولن يكون، بعيداً عن حادثتين أكثر خطورة. واحدة قامت بها عصابات القتل في خلدة، وأخرى نفّذتها مجموعة المضلّلين في شويّا. والحادثتان جزء إضافي من تمارين القبائل اللبنانية استعداداً لما يعتقدون أنه اليوم الكبير. وللأسف، لم يكن الأمر، لا في خلدة ولا في شويّا ليكون، لولا اضطرار وليد جنبلاط الى إظهار استعداده لدفع الفواتير للسعودية ولو بالدم، بعدما قُرِّع وائل أبو فاعور، مندوبه عند (رئيس الاستخبارات السعودية) خالد حميدان، مراراً وتكراراً لكون السعودية سئمت من الأقوال دون الأفعال، وبعدما تطوع هؤلاء للقيام بما رفض سعد الحريري القيام به ضعفاً أو تعقلاً أو لأسباب أخرى…
المشهد في لبنان اليوم، ليس قاتماً وحسب، بل شديد السوداوية. ومن يعتقد بأن الفيلم اللبناني قابل لإعادة العرض كما حصل قبل 45 سنة هو شخص فاقد للعقل، ولا يجيد قراءة ما هو ظاهر أمام عينيه. لكن الحقيقة الأكثر إيلاماً هي أن بين قادة القبائل اللبنانية، من هو مستعد لحرق كل شيء: بيته وناسه قبل الآخرين من أجل أن يبقى حيث يعتقد أنها حصته في هذا النظام البائس. ومشكلة هؤلاء ليست في أنهم يغامرون بكل شيء، ويشتاقون إلى الفاشية الدامية كل لحظة، بل المشكلة في من لا يزال يفترض أنه يمكن جمع اللبنانيين في «لفّة» واحدة لأجل تبرير طموحاته. وهذه المرة، سيكون السؤال الكبير موجّهاً الى كل من شارك وبارك وناضل في حراك 17 تشرين، معتبراً عن حق أو غير حق، أنها طريقه الى الدولة المدنية العادلة والحديثة. والسؤال ليس كيدياً بقصد إحراج من لا يقدر على فعل يتجاوز قدرته، بل بقصد استخدام العقل في هذه اللحظة بالذات: من لا يرفع الصوت بوجه الفاشيين المنتشرين من شويا الى خلدة الى الجميزة الى أماكن أخرى يجري العمل على إعدادها، هو شريك كامل الأوصاف في الجريمة الكبرى التي تنتظر بقايا هذا الكيان!
ليس صحيحاً أنه يمكن اعتماد مبدأ 6 و6 مكرر في حالات القتل العشوائي والسعي الى إنتاج الحرب الأهلية. والسؤال الأكثر إلحاحاً، هو بوجه كل من يعتبر نفسه خارج هذه المنظومة الفاشية ــــ الطائفية. إنه سؤال موجّه بالاسم والعنوان إلى كل من يشارك في معركة يقول دعاتها إن هدفها التغيير، لكنهم يرون أن الطريق الى هذا التغيير يمرّ بحرب أهلية هدفها تدمير المقاومة!
إنه سؤال مباشر، الى علمانيّي ومدنيّي من شارك في الاستحقاقات النقابية الأخيرة، وإلى ناشطي ومناضلي الحزب الشيوعي والتنظيم الناصري ومواطنين ومواطنات في دولة، وإلى كل المجموعات الأكاديمية والأطر النقابية الخارجة من قهر النظام الطائفي بكل مآسيه. ومن يعتبر نفسه غير معني أو غير مسؤول، عليه أن يتذكّر أن هذه القبائل أنهت السنوات الـ 15 الأولى من الحرب الدموية بتوافق على تقاسم ثروات الناس، ومارست كل القهر وفنون السرقة على مدى 15 سنة أخرى، ثم عادت لتتقاسم ما بقي من الكعكة في السنوات الـ 15 الماضية… وبعد كل ذلك، ها هي تعود الى اللعبة الأحب الى قلبها، وإلى المهنة التي لم تحترف غيرها: الى لعبة القتل المجنون. وعلى هؤلاء المتضررين أن يتذكّروا، من دون وجل أو خشية أو خوف، أنهم كانوا على الدوام ضحايا هذه اللعبة. لكنّ صمتهم اليوم سيجعلهم شركاء في جريمة قبل أن يتحوّلوا الى آخر ضحاياها أيضاً!