يوماً بعد يوم يتأكد للمسيحيين في لبنان أن المعركة الوجودية أصبحت كبيرةً جداً وخطيرةً إلى درجة تفرض عليهم تحالفاً راسخاً بين بعضهم البعض يحفظ دورهم من خلال نظام سياسي يمنع هيمنة طائفة على طوائف أخرى. والأهم في هذه العملية أن يُخرج قادة المسيحيين من أذهانهم وتفكيرهم ذلك الخوف من المس بما يعرف «العيش المشترك» أو اندلاع حربٍ أهليةٍ، فتحركهم هذا إن حصل ليس تحركاً عنفياً ولا الهدف منه النزاع مع طوائف أخرى، بل أن الهدف هو إحلال سلامٍ واستقرارٍ في لبنان ليسا قابلين للإهتزاز والسقوط كلما رغبت مجموعة في السيطرة على القرار والدولة وأن تأخذ اللبنانيين إلى خيارات لا تريدها الأكثرية الساحقة منهم.
لم يعد يتحمل المسيحيون وغيرهم من اللبنانيين تكرار ما حصل خلال عشرات السنوات الماضية من طريقة حكمٍ لم تؤد إلى بناء دولةٍ وسيادة القانون وتطبيق وتحسين الدستور، وفي هذه الممارسة الشاذة يتحمّل مسيحيون أيضاً مسؤولية في ما وصل إليه لبنان لأنهم في مواقعهم في السلطة لم يكن البلد يوماً وأهله مصلحةً وأولويةً أولى، ولم يسعَ هؤلاء فعلياً لقيام دولةٍ قويةٍ، بل على العكس استسلموا لمن أتى بهم من قوى الأمر الواقع الإقليمية والمحلية وسلّموا بمشاريعها مقابل عطاءاتٍ ومكافآتٍ ماليةٍ وسياسيةٍ وتنفيعاتٍ على حساب وجود لبنان ووجود المسيحيين في شكل خاص.
هؤلاء، لا شيء يعوض عن الجريمة التي اقترفوها سوى أن ينقلب أداؤهم رأساً على عقب بعدما لمسوا بالدليل القاطع أنّ رعاتهم من طوائف أخرى ينقلبون عليهم ساعة يشاؤون، وأنّ كل ما كانوا قد أخبروهم به بأنهم حاجة وطنية لا يمكن التخلي عنها، تبين أنّه سراب، والحقيقة أنّ تلك الشخصيات والمجموعات المسيحية ما كانت سوى أداةٍ لتنفيذ بعض جوانب المشروع السياسي والديمغرافي لرعاتهم.
إن إدراك هؤلاء للمصلحة اللبنانية الخالصة وعلى رأسها مصلحة المسيحيين وجميع اللبنانيين والعمل بموجب هذه المصلحة، يفتح الباب أمام نقاش فعلي حول مصير البلد والصيغة، فالمسألة لم تعد التمسك بشعاراتٍ ومسلماتٍ تستنزف وجودنا، فكما يحافظ غيرنا على وجوده بقوة السياسة والسلاح وينشئ كيانا متكاملاً ويأخذ البلد إلى حيث يريد، علينا نحن أيضاً أن نحافظ على وجودنا وأن يكون لنا كيان سياسي حتى ولو تناقض مع شعار «لبنان الرسالة»، فهذه الرسالة إن لم تكن محترمة عملياً وليس كلامياً من قبل جميع اللبنانيين فلا يمكنها أن تحيا لأن المتمسكين بها سيوصفون عندها بالسذاجة التي ستقضي عليهم.