لم تكن السلطة يوماً مصدر القوة للمسيحيين، إنما قوتهم كانت دائماً نابعة من حيوية مجتمعهم وديناميته ونُخبه وطاقاته ومبادراته، ولكن دور السلطة يأتي مكمّلاً وهو أساسي توفيراً للحماية لهذا المجتمع من أجل أن يحافظ على هويته واستمراريته.
العلاقة بين المجتمع والسلطة أساسية وتكاملية، ولكن التمييز ضروري بين انّ مصدر قوة المسيحيين هو المجتمع لا السلطة خلافاً لغيرهم الذين تشكّل السلطة مصدر قوتهم، إلا انّ السلطة ضرورية، بالنسبة إلى المسيحيين، من أجل حماية قوة مجتمعهم واستمراريته في ظل مشاريع أيديولوجية عابرة للحدود لا تؤمن بحرية وانفتاح وتعددية ونمط عيش وديموقراطية.
فالقلق المسيحي أمس واليوم ليس على وضع مجتمعهم الذي هو بحالة أفضل من المجتمعات الأخرى والدليل انّ سويسرا الشرق في مناطقهم، إنما على مستقبلهم في هذا البلد في حال تواصلت الحروب والفوضى. ومن هنا ضرورة وضع حد نهائي لهذه الحروب الباردة والساخنة، وفي حال كان ذلك مستحيلاً العمل على منع تأثير التغييب المتعَمّد للدولة عن مجتمعهم ومناطقهم.
ولا شك في أن الكتابة سهلة والكلام أسهل لجهة وجوب الوصول إمّا إلى إنهاء مشروع الفوضى وإمّا الى منع تأثيره، لأنه في التجربة الأخيرة مثلاً منذ العام 2005 إلى اليوم لم تنجح المساعي كلها لقيام دولة، كما لم تنجح بالحدّ من الانعكاسات السلبية للدويلة. وبالتالي، من الضروري التمييز بين الهدف وبين القدرة على تحقيقه.
والقدرة على تحقيق أي هدف تتطلّب ليس فقط القوة السياسية، إنما الظرف السياسي. فالرئيس حافظ الأسد كان يريد ان يضع يده على لبنان منذ العام 1976، ولكنه لم يتمكّن من ذلك سوى نتيجة ظروف لبنانية وخليجية ودولية: تفويت العماد ميشال عون فرصة تطبيق اتفاق الطائف باندفاعة عربية ودولية، إحتلال الرئيس صدام حسين للكويت والذي نقل الاهتمام العربي والدولي من لبنان إلى الخليج، اليأس الدولي من لبنان والحاجة إلى إمساك أوضاعه لعدم التشويش على مؤتمر مدريد للسلام. وبالتالي، لولا تقاطع هذه الأوضاع مجتمعة لما نجح الأسد بالوصاية على لبنان.
وهل من أحد يُشكِّك مثلاً بأنّ «حزب الله» يريد بالحد الأدنى دور الوصاية على النظام السياسي على غرار حليفه النظام السوري، وبالحد الأقصى أسلمة النظام على طريقة ولي الفقيه وإلحاقه بإيران؟ وعلى رغم انّ الحزب يمتلك القوة العسكرية والتحالف الإقليمي، ولكن الظرف السياسي لم يسمح له بتحقيق لا الهدف الأول ولا الثاني، وهذا للدلالة على انّ القوة وحدها لا تكفي، إنما القوة ضرورية بانتظار الظرف المناسب.
والهدف هذه المرة لم يعد يقتصر حَمله وتَبنّيه من قبل القوى السياسية، إنما المجتمع أصبح متقدماً على هذه القوى، وهذا يعني تطابقاً وتكاملاً بين عناصر المجتمع كلها. فحالة التعبئة المسيحية اليوم شبيهة بالحالة التي كانت قائمة بعد منتصف سبعينات القرن الماضي في ظل وجود خط أساسي تتمحور حوله الناس، ورفضٍ كلّي لمواصلة العيش في ظل أوضاع إلغائية وإلحاقية وتدميرية.
فمَن يدافع من المسيحيين عن «حزب الله» اليوم، هو كَمَن كان يدافع عن منظمة التحرير في سبعينات القرن الماضي والنظام السوري في تسعينات القرن الماضي. ومن يدافع من المسيحيين عن الصيغة اليوم هو كَمن كان يهاجم منهم الجبهة اللبنانية في الحرب.
وما تقدّم ليس مبالغة إطلاقاً، وأيّ استطلاع مُحايد يخرج بنتيجة انّ الفدرالية لم تعد تكفي بالغرض، ومن لا يريد قراءة الواقع فهذا شأنه، وأما لماذا وصل المسيحيون إلى هذه القناعات فهو نتيجة ثلاثة خلاصات أساسية:
الخلاصة الأولى: وصولهم إلى قناعة بأنّ تجربةً تعاني مرضاً سرطانياً منذ أكثر من نصف قرن يستحيل ان تُشفى منه، إذ كان الأمل ان تنتظم أحوال البلد بعد خروج منظمة التحرير، فساءت الأوضاع، وان تعود وتنتظم مع اتفاق الطائف، فأمسك نظام الأسد بالبلد، وان تعود وتنتظم بعد خروج الجيش السوري، فتدهورت الأوضاع إلى ما هو أسوأ بكثير كَون المشكلة مع بيئة ترفض تسليم سلاحها وهناك استحالة لنزعه بالقوة، وفي ظل شعور انه حتى لو حصلت أعجوبة وحُلّت هذه الأزمة، فستنشأ أزمة أخرى.
فالرهان إذاً على الشفاء والوقت انتهى لدى الأكثرية الساحقة من المسيحيين، لأنّ من لم يطبِّق اتفاق الطائف منذ 34 عاما لن يطبِّقه اليوم، ومَن رفض تسليم سلاحه وأصَرّ على ربط لبنان بمحور الممانعة، لن يسلِّم سلاحه غداً ولن يرفع عنوان حياد لبنان.
الخلاصة الثانية: وصولهم إلى قناعة بأنّ المشكلة في الصيغة، إذ يستحيل قيام دولة مركزية في ظل انتماءات وولاءات مختلفة، فالدول المركزية تقوم على ولاء وانتماء واحد، وقد أظهرت تجربة أكثر من قرن انه يستحيل توحيد الولاءات حول أولوية لبنان والدولة. ولذلك، من غير المقبول استمرار هذا الظلم المتبادل: ان تُظلم شرائح معينة تَعتبر مثلاً انّ مرجعيتها إيران لا لبنان، ومن غير المقبول بالمقابل ان تُظلم الشرائح التي مرجعيتها لبنان فقط لا غير بسبب انّ الشرائح الأخرى تريد إلحاق لبنان بإيران، فلماذا هذا الإصرار على انصهارٍ لم ولن يحصل، فيما المطلوب أن تعيش كل بيئة بالطريقة التي تراها مناسبة؟
الخلاصة الثالثة: وصولهم إلى قناعة بوجوب الانتقال من تشخيص الأزمة إلى الخطوات العملية لسببين أساسيين: لأنّ الرهان على قيام دولة فعلية بعد تغييبها لأكثر من خمسة عقود هو وَهم وسراب، ولأنّ الرهان على الوقت ليس لمصلحتهم، إنما يخدم المشروع الآخر الذي يريد إضعاف التعددية تمهيداً لإمساكه بالبلد.
ومعلوم انه في هذه الأيام يكثر النقّ لدى المسيحيين من الديموغرافيا والتمَدّد العقاري والانهيار المالي وأوضاع الدولة المهترئة، ولكن هذا النقّ لا يستوي إذا ما قورِنَ بأوضاع الطوائف الأخرى وتحديداً الشيعية السياسية التي تشكل مصدر المشكلة اليوم، فهذه الشيعية لم تقدِّم سوى تجارب الحكم الفاشلة بدءاً من إيران مروراً بالعراق واليمن وصولاً إلى لبنان، وصَعّبت على المواطن الشيعي حياته، فلا هو قادر على العمل في الخارج، ومعرّض في لبنان للتهجير المتواصل بسبب الحروب، ويتعرّض لخسائر هائلة في الأرواح، إذ ما كادت ان تنتهي الحرب السورية التي كلّفت هذه البيئة الآلاف حتى انخرطَ في حرب «طوفان الأقصى»، ويدفع كلفة باهظة جداً، فيما الطوائف الأخرى وتحديداً المسيحيين يعيشون حياتهم بشكل طبيعي.
وأي مراجعة لمشروع «حزب الله» تُظهر انه كان قد شَكّل حالة عربية وإسلامية ونجح بأن يكون له امتداداته داخل الطوائف الأخرى، ولكنه انتهى به الأمر من دون أي عمق عربي وإسلامي ولبناني، والمشروع الذي يعرضه على اللبنانيين حروب مستمرة من دون دولة ولا عدالة ولا استقرار. وإنّ مشروعاً من هذا القبيل لا يمكن ان يشكل عدوى لدى طوائف أخرى تريد العيش في كنف دولة ووسط بيئة مستقرة ومزدهرة.
وأي معاينة للواقع المجتمعي اللبناني اليوم تُظهر انّ الفرز أصبح من طبيعة مجتمعية، فهناك بيئة اهتماماتها الحرب والقتال والعنف مقابل بيئة أخرى اهتماماتها العمل والسهر وحبّ الحياة، وهناك شعور بأنّ ما يحصل على الحدود، على رغم كارثيته وتأثيره على بيئات جنوبية رافضة للحرب، وكأنه يحصل في دولة أخرى، وذلك من منطلق انّ مَن اتخذ قرار الحرب عليه ان يتحمّل وحده تبعاتها لا ان يُحمِّل المجتمع اللبناني برمّته كلفة حرب لا يريدها وليس شريكاً في الانخراط فيها.
وما يجدر التوقّف عنده مَلياً هو انّ البيئة المسيحية انفرزت في نهاية ثمانينات القرن الماضي بين قوة عسكرية غير مسبوقة لها مشروعها وأهدافها، وبين مجتمع نتيجة الحروب والتعب وقفَ خلف العماد ميشال عون الذي دمّر القوة العسكرية سعياً إلى وحدة ورفضاً للفَدرلة، فيما المجتمع نفسه اليوم أصبح يهاجم القوى السياسية المسيحية لأنها لا تُعلن الطلاق والتقسيم. وبالتالي، أصبح المجتمع متقدماً على القوى السياسية، فيما وضع هذه القوى اليوم أفضل بكثير مما كانت عليه في العقدين الأخيرين.
فالشعور المسيحي العام انّ الدولة المركزية لم تعد قابلة للحياة، ويقولون «اللي جَرّب المجَرّب عقله مخرّب». فكفى تجارب فاشلة منذ العام 1943، وكيف يمكن الرهان أساساً على تجربة عاشت بالكاد 24 عاماً حتى العام 1967 وهي تموت يومياً منذ 57 عاماً، فيما الخطيئة التكوينية التي ارتكبت انّ دولة مركزية لا تستقيم في المجتمعات التعددية؟
وعَدا عن الخلاف البنيوي العميق بين النظرتين إلى لبنان ودوره، بين من يريد تحييده، وبين من يفرض على اللبنانيين رَبطه بإيران، وعدا أيضاً عن الخلاف الجوهري في النظرة إلى الدولة بين من يريدها مساحة مشتركة تحافظ على التعددية والشراكة والمساواة وتسهر على حماية الحدود والمواطنين، وبين من يريدها شكلية من أجل ان يحتفظ ببنيته العسكرية وإلحاق لبنان بمشاريعه الإقليمية، فإنه عند كل استحقاق دستوري يجب ان يتدخل مجلس الأمن والناتو والجامعة العربية لإتمامه، فتشغر رئاسة الجمهورية في كل مرة لسنتين او ثلاث، وتأليف الحكومة يحتاج لأشهر أو سنة، وهكذا دواليك. وفي هذا السياق قال مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان كلاماً يجب التوقّف عنده في رسالته الى اللبنانيين، لمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج: «لا أعرف بلداً في العالم يتعذّر فيه انتخاب رئيس للجمهورية، وكيف تقوم دولة بدون رئيس وحكومة عاملة؟ وما شأن أزمة الشرق الأوسط بانفجار المرفأ؟ وما شأن أزمة الشرق الأوسط بانهيار الليرة اللبنانية؟ وأخيراً ما شأن الأزمة المذكورة بعدم انتخاب رئيس للجمهورية؟».
فالمطلوب فصل الانقسامات والخلافات والأزمات عن إدارة شؤون الناس من خلال صيغة سياسية لا تتأثّر بانقسام ولا تتعطّل بأزمة ولا تشغر بخلاف، وأن تحافظ على انتظامها دائماً وأن تكون أولويتها الحصرية مصلحة لبنان وشعبه الذي عانى طويلاً بسبب ربط حياته واستحقاقاته وأمنه وازدهاره ومعيشته بأزمات الخارج، وحان الوقت للدفع باتجاه هذه الصيغة التي تفكّ عقدة تَمويت لبنان فتصبح كل بيئة حرة بخياراتها التي تتلاءم مع شعورها ومفاهيمها.
والمتحوِّل المسيحي او ما يختلف في عيد مار مارون هذا العام عن الأعوام التي سبقت، هو انّ الخط السياسي المسيحي الحليف لـ»حزب الله» تراجع كثيرا وأصبح تماما كالخط المسيحي المؤيّد لمنظمة التحرير ونظام الأسد. وهناك يقظة مسيحية على الوجود والمصير، ووعي مُجتمعي ونخبوي غير مسبوق تحت عنوان رفض التطبُّع مع الأمر الواقع، ورفض الرهان على عامل الوقت، ورفض الرهان على الأعاجيب، والإصرار على التعامل مع الوقائع والحقائق، والإصرار على الصيغة التي تحترم التعددية فعلاً لا قولاً، فتعيش كل جماعة ضمن مساحة لبنان الجغرافية قناعاتها من دون ان تُلزم الجماعات الأخرى بها ومن دون ان تضطر إلى مسايرة أحد، وبما يجعلها تطمئن لمرة واحدة إلى وجودها واستمراريته بعيداً عن شعارات دمّرت جوهرة الشرق لبنان من قبيل الوحدة والانصهار والذوبان وإلغاء الطائفية ووحدة المسار والمصير.