في الحديث عن أزمة المسيحيين، يتّجه البحث تلقائيّاً نحو شغور رئاسة الجمهورية، أو معضلة نفوذهم داخل النظام السياسي أو دورهم إزاء أحداث المنطقة وترتيباتها المستقبلية. لكن العقم قد تسرّب في السنوات الأخيرة إلى مستوياته الدُنيا، حتى بات التفتيش «بالسراج والفتيلة» عن بضعة شباب وشابّات يدخلون الأسلاك العسكرية والأمنية والإدارية، لتأمين الحدّ المطلوب من التوازن الوطني المفقود. كي لا يصبح المسيحيون في غربة تامّة عن الدولة التي ساهموا في نشأتها وعلّة وجودها. فاضمحلال الحضور المسيحي في البنى التحتية للجمهورية سينعكس سلباً على بنيتهم الفوقية، فلا يكفي إملاء الفراغات العليا، فيما القاعدة مُستنزفة.
لعلّ المثل الأبرز الذي يُحاكي هذا الواقع، هو الدورة الأخيرة لقوى الأمن الداخلي، التي انتهت مرحلة تقديم الطلبات إليها في 17 أيار الفائت أي قبل أسبوعين. ولكن بما أن عدد المسيحيين لم يكتمل، فقد مُدّدت مهلة الطلبات (بشكل غير رسمي) حتى السابع من حزيران المقبل للمسيحيين فقط، وحصراً عبر مؤسّسة «لابورا»، التي تُناضل منذ تأسيسها في سبيل تدريب المسيحيين على المهارات والكفاءات المطلوبة ونشر الوعي لديهم حول أهمية وجودهم في إدارات الدولة كافّة.
ويُشار إلى أن العدد المطلوب لهذه الدورة هو 800 عنصر فقط، مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، أي 400 لكل جهة. وتقدّم حتّى هذه السطور 341 مسيحيّاً وفق رئيس «لابورا» الأب طوني خضرا. أما اللافت في هذا الموضوع، فهو أن هذه النتيجة أتت بعد حملة «طويلة عريضة» قام بها الأخير تجاه الأبرشيات والرهبانيات والأحزاب والقوى السياسية، طارحاً الصوت على أكثر من 1840 كاهن رعية، كي نصل إلى هذا العدد الضئيل، على أمل اكتمال المحصّلة المطلوبة قبل الموعد الأخير. فيسأل خضرا مستغرباً: «هل يُعقل أنه علينا استنهاض كل هذه المناطق والبلديات والأحزاب والرعايا لتأمين 400 شاب وشابة فقط؟»
لا شكّ أن الواقع الاقتصادي المزري يدفع الشباب والمسيحيين منهم نحو القطاعات الخاصة، مع العلم أنّ الزيادات الأخيرة لرواتب القطاع العام والطبابة والنقليات التي تؤمّنها المديرية والمساعدات العينية والسماح للعناصر والأفراد بالعمل خلال فرصهم في مؤسسات خاصّة، ساهمت إلى حدّ ما في تحسين أحوالهم، ولم تعد تختلف كثيراً عن موظفي القطاع الخاص لا سيّما الذين لا يملكون شهادات جامعية أو مهنية ويعملون في وظائف كالحراسة و»الدليفري» والمطاعم وغيرها. إلا أن الدوافع بالنسبة للأب خضرا، لا تنحصر في الأسباب المعيشية فقط. فيرى أن المسيحيين باتوا يعتبرون الدولة ومؤسساتها غريبة عنهم، لا تشبههم، بسبب سيطرة وهيمنة قوى سياسية معيّنة على حساب الآخرين، وتقرّر عنهم مصيرهم في السلم أم في الحرب.
في السياق، اختبر المسيحيون سابقاً هذا الشعور بعد انتهاء الحرب الأهلية وهيمنة الاحتلال السوري على كل مفاصل وحياة الجمهورية اللبنانية، ما دفعهم إلى الانكفاء عن الدولة ومؤسساتها الإدارية والعسكرية، فاختلّ التوازن مجدداً وبلغت نسبتهم في قوى الأمن الداخلي على سبيل المثال لا الحصر حوالى 27% فقط كأفراد ورتباء! فيما كانت المناصفة قبل التسعين مؤمّنة إلى حدّ ما، مع هامش يتراوح بين 3 و5% لصالح المسلمين. حول هذه المسألة، أشار النائب اللواء أشرف ريفي إلى أنه عندما تسلّم المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي عام 2005 بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان، طرح الموضوع في بكركي مع البطريرك نصرالله بطرس صفير، وتمّ الاتفاق على العمل لإعادة التوازن المسيحي – الإسلامي، وبالفعل أثمر التعاون بين بكركي والمديرية بعد أشهر، حيث انهالت طلبات المسيحيين إلى المديرية لتأخذ نسبتهم منحى تصاعدياً وصلت إلى 40.2% عام 2013. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن رفع «القيود» عن أبناء الشريط الحدودي والسماح لهم بالدخول إلى سلك قوى الأمن الداخلي في عهد اللواء ريفي وبمساهمة من البطريرك صفير، قد أرفد السلك بالعديد من أبناء الجنوب، لا سيما رميش ودبل والقليعة… غير أنه مع انتهاء ولاية اللواء ريفي ولأسباب عدّة شهدتها البلاد، تقلّص الحضور مجدّداً، ولم تُستكمل الخطّة التي كانت تصبو إلى 50%.
بالعودة إلى الأب خضرا، فيشدد على مفهوم «الأمن بالتوازن» الضامن للأمن الاجتماعي والسياسي. ولفت إلى أنه اقترح على الكنيسة منذ العام 2018 كما على القوى والمرجعيات السياسية والبلديات والرعايا، تأمين حوافز مادية ومعنوية تحثّ الشباب على دخول الأسلاك العسكرية، كأن يساعدوهم في أكلاف الزواج والأقساط المدرسية وغيرها من مقوّمات الحياة، خصوصاً قرى وبلدات الأطراف في الجنوب والشمال والبقاع، التي تُعدّ الخزّان البشري، فلا يجوز الإتكال عليهم لسدّ العجز المسيحي في الأسلاك العسكرية من جهة، وإهمالهم إنمائيّاً واقتصادياً واجتماعياً من جهة أخرى.