على عكس موقف رئيس الجمهورية من حكومة عهده الاولى، فإن القوى المسيحية التي دخلت على خط التأليف، لا يمكن أن تعتبر نفسها غير معنية بحكومة تتمثل فيها بعشرة وزراء
هي المرة الاولى التي يمتلك فيها المسيحيون قرار تأليف الحكومة والمشاركة فيها، ليس منذ عام 2005 فحسب، بل منذ عام 1990. ستاً وعشرين سنة، ظلت القوى المسيحية تتحدث خلالها وتطالب بأن يكون لها حق المشاركة في قرار التأليف وفي استعادة الحصص المسيحية في الحكومة ومجلس النواب، كما حصل تحديداً منذ عام 2005. اليوم، وبعدما انتخب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، تحولت هذه المطالبة أمراً واقعاً، وبدأ مسار التأليف يأخذ مداه في الوسط المسيحي، على قاعدة أن المسيحيين هم الذين يختارون ممثليهم، بحسب ما تطالب قياداتهم.
من أصل 12 وزيراً (و15 إذا رست المفاوضات على حكومة ثلاثينية) يمكن للقوى المسيحية التي لطالما رفعت شعار «استعادة الحقوق» أن «تفخر» بأنها اختارت بنفسها عشرة منهم، فيما اختار الرئيس سعد الحريري وزيراً واحداً، هو مستشاره غطاس خوري، ومنح الرئيس نبيه بري من حصته وزارة الأشغال إلى رئيس تيار المردة سليمان فرنجية الذي سمّى لها مستشاره يوسف فنيانوس. والمفارقة أن الحريري حصل على وزير ماروني من حصته المباشرة، وأعطى بري بدوره مقعداً مارونياً لفرنجية، ما يعني أن رئيسي المجلس والحكومة حصلا ــــ سواء من حصتيهما المباشرة أو غير المباشرة ــــ على وزيرين مارونيين من أصل خمسة وزراء موارنة.
وحصول القوى المسيحية التي كانت تُطالب بتصحيح التمثيل على عشرة وزراء، ووزارات سيادية وخدماتية متنوعة، يشكل بداية مرحلة مختلفة في مسار الواقع السياسي الذي نشهده مع العهد الجديد. فمع هذه النقلة لا يمكن لهذه القوى أن تتبرّأ لاحقاً، لا من ممثليها الذين اختارتهم بعناية منذ أسابيع، ولا من أدائهم، لأنهم سيكونون أول تعبير حقيقي عن «هواجس المسيحيين» بحسب تعابير هذه القوى، علماً بأن المجمع البطريركي الماروني سبق أن أكد عام 2006 أن «مشاركة الموارنة في السياسة تساعد في تفعيل الحياة السياسية عبر تجديد قيادتهم ومحاسبتها، وذلك عندما يختارون ممثلين يتمتعون بالصدقية والشفافية والاستقامة المسلكية والشجاعة الفكرية». وهؤلاء الممثلون سيكونون اليوم واجهة القيادات المسيحية في خوضها أولى التجارب الحقيقية في عهد يعتبرونه عهدهم.
واستطراداً، لا يمكن لهذه القوى أن تتنصّل من أي تبعات تشهدها الحكومة، لا في الاصطفافات السياسية داخلها، ولا في ترجمة أعمالها على الارض. وإذا كان رئيس الجمهورية يصرّ على اعتبار أن الحكومة ليست حكومته الأولى، إلا أن التيار الوطني والقوات وحلفاءهما (إذا انضمت الكتائب اليهما، علماً بأن رئيس حزب الكتائب وقف الى جانب رئيس الجمهورية وزاره ولو لم ينتخبه)، لا يمكن أن يتعاملوا وفق المنظور ذاته مع الحكومة، ويتخلوا عنها عند أي مفترق. فمع صدور مراسيم التأليف، يصبح الوزراء المسيحيون ممثلين للقوى المسيحية، ويصبح عملهم وترجماته العملية في مجلس الوزراء، بالمرصاد. ولا يمكن تالياً لهذه القوى أن تتذرع بأي من الأسباب الموجبة للتنصّل من أفعال الحكومة، في كل الملفات المطروحة ، بدءاً من أزمات النفايات والكهرباء والطرق وفوضى السير، وصولاً الى ملفات النفط ومراسيمه والتعيينات الأمنية والإدارية الكثيرة، وقانون الانتخاب وإجراء الانتخابات النيابية.
والبحث الذي بدأ حول قانون الانتخاب يعيد تذكير هذه القوى بأنه لا يمكن أن تكرر ما فعلته في الدوحة وبعده، حين طالبت وأصرّت على قانون الانتخاب على أساس الستين والاتفاق عليه في الدوحة، لكنها ما لبثت أن تخلت عنه بعد انتخابات عام 2009 وطالبت بتغييره، الى حدّ ما نشهده اليوم من محاولات حثيثة واجتماعات متواصلة بهدف تطيير قانون الستين من المعادلات المسلّم بها لإجراء الانتخابات على أساسه. فأن يتحول البلد مجدداً حقل تجارب بفعل الإصرار على الشيء ومن ثم الانقلاب عليه، قد يؤدي الى عكس ما يشتهيه المسيحيون، وخصوصاً في بداية عهد وحكومة جديدة بعد شغور طويل وانعدام العمل في المؤسسات، علماً بأن ما جرى في مشاورات التأليف ومفاوضات الأيام الاخيرة، دلّ على أن أي تكتّل مسيحي، يقابل فوراً بتكتل مضاد يهدف الى سحب أي تأثيرات لمفاعيل التفاهمات المسيحية على قرار بحجم المشاركة الفعلية في تشكيل الحكومة، واختيار الحقائب والوزراء فيها. فدخول الرئيس بري على خط التأليف مباشرة، إنما جاء بخطوة اعتراضية على الحصص المسيحية بحجج مختلفة، والدور المسيحي فيها، ولم يقارب العملية من زاوية اختيارات الحريري (أو النائب وليد جنبلاط) لا حقائب ولا توزعاً مناطقياً، الأمر الذي دفع بأحد السياسيين من خارج نادي القوات الى القول إنه كان الأجدى وفق ما جرى في مفاوضات الايام الاخيرة وتشعباتها السياسية، العودة الى ما قاله رئيس حزب القوات سمير جعجع بضرورة قيام حكومة (غير وطنية وجامعة) تكون المعارضة خارجها.
والودّ المفقود بين بري من جهة والتيار الوطني والقوات من جهة أخرى، ليس هو الذي ساهم في إعطاء طابع حاد لدخول بري الاعتراضي. فبعد تفويض حزب الله إلى بري التفاوض في شأن الحكومة، تولّى رئيس المجلس التفاوض عن قوى 8 آذار، ولم يتعامل مع عون إلا بوصفه خارجاً عن قوى 8 آذار، وأنه حليف لحزب الله فقط. من هنا كانت مداخلات بري التفاوضية، تارة مع المردة وتارة مع الحزب السوري القومي الاجتماعي، ناسجاً مسافة شاسعة بينه وبين إدارة عون لملف التفاوض حول الحكومة وتشعباتها السياسية، الأمر الذي ستكون له تداعيات كثيرة ما بعد التأليف.