لا يمكن مقارنة علاقة الدكتور سمير جعجع بالمملكة العربية السعودية بمَن سبقوه من قيادات مسيحية في الجمهورية الأولى، لأنّ السعودية اليوم غير السعودية بالأمس.
الفارق بين السعودية اليوم والأمس ليس بالتوجّه السعودي التقليدي والتاريخي، أي الانفتاحي والخط الاعتدالي ورفض التدخل في شؤون الغير والحرص على كيانات الدول واستقلالها، إنما الفارق هو في النفوذ والتأثير والمكانة الإقليمية والدور الواسع، فضلاً عن تحوّل الرياض بعد العام ١٩٩٠ إلى مرجعية السنّة، وتحديداً في لبنان.
فوجهة أهل السنّة في لبنان منذ عشرينات القرن الماضي إلى خمسيناته كانت سوريا، ومن ثم انتقلت إلى مصر عبد الناصر، وبعدها إلى فلسطين أبو عمار، قبل أن تعود إلى سوريا، وتحطّ أخيراً في المملكة العربية السعودية.
ومن هنا العلاقة مع الرياض في هذه المرحلة تختلف عن العلاقة معها في المراحل السابقة، حيث أنها تمثّل اليوم البعد الوجداني الذي مثّلته قبلها سوريا ومصر وفلسطين. وبالتالي، أهميتها تكمن في هذا البعد تحديداً الذي جعل التماهي مع سنّة لبنان كاملاً ومطلقاً.
وإذا كانت السعودية تحرص دوماً على علاقات متوازنة مع كل المكوّنات اللبنانية، كما تحرص على دعم الدولة، ولم يسجّل عليها تشجيع أيّ مشروع خارج الدولة وعلى حسابها، ويسجّل لمصلحتها انها في عزّ الحرب الأهلية لم تدعم طرفاً على آخر، بل دعت باستمرار للوحدة الداخلية، فإنّ الأعوام التي تلت اتفاق الطائف، الذي تمّ برعايتها، لم تشهد علاقات مسيحية-سعودية وثيقة. وذلك عائد، ربما، إلى إخراج المسيحيين من المعادلة الوطنية، حيث كانت علاقات المملكة وطيدة مع الشهيد رفيق الحريري والنائب وليد جنبلاط.
وقد نجح الحريري في جعل المزاج السني يتحوّل تدريجاً من العمق السوري إلى العمق السعودي، الأمر الذي أسّس لانتفاضة الاستقلال، واغتياله كان فقط «النقطة التي أفاضت الكأس»، لأنّ التحول بين العمقين ألغى موروثاً تاريخياً له علاقة بالنظرة الوحدوية مع سوريا، ومَهّد لنقل السنّة إلى العمق اللبناني.
وعلى رغم العلاقة السعودية الطبيعية مع كل المسيحيين ربطاً بحرصها على طبيعة الصيغة اللبنانية والشراكة المسيحية-الإسلامية، إلا أنّ العلاقة مع المسيحيين لم تتوطّد بالشكل الذي كانت عليه مع جنبلاط، على سبيل المثال، إلا بعد انتفاضة الاستقلال في العام ٢٠٠٥ ونشوء تحالف جديد وعودة المسيحيين إلى الحياة السياسية.
وقد ترافق ذلك مع انقسام حاد في المنطقة اتخذ أشكالاً مختلفة، أبرزها صعود التوتر السني-الشيعي والسعودي-الإيراني الذي وصل إلى حدّه الأقصى مع اندلاع الأزمة السورية.
وفي هذا الوقت لمست الرياض لمس اليد أنّ هناك تقاطعاً مع فريق مسيحي في لبنان يشكّل تثبيته وتطويره مصلحة متبادلة ومشتركة، ويحمل رسائل عدة، أبرزها:
أولاً، رسالة سعودية إلى الخارج على اختلاف أوجهه بأنّ المملكة ليس لديها مشروع سني في المنطقة، ولا مشروع قومي، إنما كل هدفها قطع الطريق على مشاريع نفوذ أخرى تريد وضع يدها على الدول العربية.
ثانياً، رسالة إلى كل المسلمين بأنّ المسيحيين مكوّن أصيل في الشرق، وأنّ التشارك معهم مسألة أساسية.
ثالثاً، رسالة إلى الغرب من أجل تبديد هاجس الاسلاموفوبيا الذي تعمّق مع صعود «داعش»، والتأكيد بأنّ الرياض ستؤدي دوراً طليعياً في هذا المجال على غرار دورها في مواجهة الإرهاب.
رابعاً، رسالة إلى كل اللاعبين المؤثرين في لبنان بأنّ سمير جعجع، على غرار سعد الحريري، خط أحمر.
خامساً، رسالة إلى كل اللاعبين اللبنانيين بأنّ أي تسوية رئاسية لن تكون على حساب جعجع.
سادساً، رسالة إلى الدول الغربية والإقليمية بأنّ لبنان لا يمكن أن يخرج من محور الاعتدال.
وأمّا على مستوى «القوات اللبنانية»، فأهمية العلاقة مع الرياض تكمن في الآتي:
أ – تأكيد على دور القوات وحضورها السياسي وشبكة علاقاتها الخارجية التي توظّف لمصلحة الدولة في لبنان.
ب – لم يعد بالإمكان التعاطي مع «القوات» باعتبارها مكوّناً معزولاً عن هموم المنطقة وشجونها، ومشدوداً باتجاه الغرب، كما كان يحلو للبعض اتهام المسيحيين. فهذه العلاقة جاءت لتؤكد على الهموم المشتركة التي تربط أبناء المنطقة العربية على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم في تجسيد عملي لمقررات السينودس التي دعت المسيحيين الى الانفتاح على المحيط، هذا المحيط الذي يشكّل بالنسبة إليهم مظلة أمان لا قلق.
ج – القناة المباشرة مع المملكة تؤشر إلى مدى الثقة التي أولَتها السعودية لجعجع نتيجة وضوحه وثباته، وتشكل عامل قوة للمسيحيين في لبنان، كما عامل اطمئنان للمسيحيين المشرقيين لوجود مرجعية مسيحية على علاقة استراتيجية مع العمق السني.
د – على رغم العلاقة الوثيقة بين «القوات» و»المستقبل»، وعلى رغم التأييد الواسع لجعجع داخل البيئة السنية، غير أنّ الشبك البنيوي مع السعودية يساهم في تحصين الشراكة المسيحية-الإسلامية وتثبيت عامل الثقة مع الشارع السني.
هـ – الارتياح المسيحي-السني للزيارة يعيد الاعتبار لتجربة 14 آذار التي قامت على فكرة الوحدة المسيحية-الإسلامية، الأمر الذي يبدد هواجس الطرفين بفعل مجموعة التباسات، ويجعل الأولوية لمشروع 14 آذار العابر للطوائف.
ويبقى أنّ المسيحيين كانوا وما زالوا من روّاد الانفتاح على محيطهم شرط أن يحترم هذا المحيط سيادتهم واستقلالهم وطبيعة نظامهم وأسلوب عيشهم، الأمر الذي ينطبق على السعودية التي لم تتدخل يوماً في التفاصيل اللبنانية، بل كانت داعمة للتجربة اللبنانية التي تؤكد أنّ الإسلام قادر على التفاعل والشراكة مع الآخر.