ليس تفصيلاً أن تظهر ثلاثة استطلاعات للرأي العام، أجرتها ثلاث جهات مختلفة، شبه إجماع مسيحي ولبناني، على دعم اتفاق بين ميشال عون وسمير جعجع. اثنان من الاستطلاعات الثلاثة باتا منشورين، وثالث أجري من دون إعلام أو إعلان. لكن النتائج المتقاطعة جاءت حاسمة. أكثر من تسعين في المئة من المسيحيين يؤيدون اتفاق الزعيمين. أمر قد يكون مفهوماً أو متوقعاً.
لكن الأهم والأغنى دلالة ومعانىي، أن النسب نفسها تقريباً من بين كل اللبنانيين، داعمة لهذا التوجه، مستعدة لتلقف الاتفاق المرتقب والوشيك. أجواء شعبية تتقاطع بدورها مع أجواء سياسية مماثلة. وهو ما يشكل برمته فرصة استثنائية على المستوى الوطني. فرصة تم تفويتها مرتين في خلال عقد واحد. فرصة قد تكون الثالثة، ويجب أن تكون ثابتة.
ذلك أن أي اتفاق بين عون وجعجع، بما ومن يمثلان أولاً، وبمن معهما من مكونات ذاتية وحزبية وتنظيمية ثانياً، وبمن وما يجتمع حولهما من حلفاء وأصدقاء، يقدم لحظة نادرة، مسيحياً ولبنانياً، لا بل حتى إقليمياً.
مسيحياً، قيل الكثير عن ضرورة إنسانية وأخلاقية وسياسية ووطنية، لطي صفحة سوداء، قد تكون آخر صفحات الحرب الماضية. فما كان قائماً يوماً ما في الوسط الشيعي شهد دماً مماثلاً. والمواقف الشيعية التي ظلت تعلن حتى العام 1989، كانت خارقة لكل السقوف. لم تستثن إيران ولا سوريا ولا تكفيراً ولا استعداء ولا هدر أرواح ولا تحليل بشر. إلى أن جاءت لحظة السلام اللبناني. ذات يوم من نهاية كانون الثاني 1989، التقى الطرفان، وقعا وثيقة، توحّدا في اتجاه لبنان. بعدها كانت حكمة نبيه بري، وبطولة عباس الموسوي، وصولاً إلى تاريخية حسن نصرالله، فكان السلام الشيعي تمهيداً وضرورة لسلام لبنان. درزياً المخاض نفسه، في الحقبات نفسها تقريباً، حتى اغتيالات 1989 أيضاً، بلا اسماء ولا نكء جراحات، انتهى إلى سلام درزي. سلام بدأ صداماً مفروضاً مع جماعات لبنانية أخرى، ثم صدامات متفرقة متقطعة مع جهات إقليمية في أحيان لاحقة، حتى الفترة الأخيرة. قبل أن يرسو مع قناعات وليد جنبلاط الراهنة الراسخة، سلاماً ميثاقياً مع كل اللبنانيين، على خلفية الخطر الداهم على كل الوطن، والمصير المشترك لكل أبنائه. في الساحة السنية، كان التوتر نفسه كامناً حيناً ظاهراً حيناً آخر. سقطت الضحايا السنية في مسار النضال من أجل لبنان واحد، وفي سياق البحث، بالتلمس والاستكشاف، عن صيغة الوطن النهائي. من صبحي الصالح إلى حسن خالد. ومن أحمد عساف إلى نزار الحلبي. حتى توّجت بدماء رفيق الحريري، ناراً صهرت الوجدان السني بالكيان اللبناني… كان لا يزال المسيحيون في الانتظار. هم من ساهموا في تأسيس الكيان، وهم من قيل إن لبنان تبلور وطناً بسببهم، لا لهم ولا من أجلهم، وهم من طولبوا منذ عشرين عاماً ومن أعلى مرجعياتهم الروحية والضميرية، بخطوات شجاعة لتطهير الذاكرة، والاعتبار من الماضي للحفاظ على الحاضر وبناء المستقبل، هم أنفسهم تأخروا حتى اللحظة، حتى باتت اللحظة الراهنة تساوي تاريخاً كاملاً.
هكذا يأتي اتفاق عون ـــ جعجع المرتجى، ليقفل آخر صفحات الحرب، وليزيل آخر رواسبها. رواسب الحقد في الوعي، والإلغاء في النيات، والعنف في الحياة السياسية، والتفرد والاستئثار في التمثيل، واستعداء الخارج على الداخل، تبريراً لاستعداء أي خارج كان على أي داخل كان.
ويأتي الاتفاق المسيحي المرتقب في لحظة احتضان من كل الحلفاء. الفريق الحريري شجع جعجع على خطوته، وذهب إلى عون ليبلغ التأييد والدعم، وصولاً حتى الإيحاء بالإيعاز خلف الخطوة. فيما الثنائية الشيعية في أجواء التقدم بين الرابية ومعراب، كلمة كلمة وخطوة وخطوة، وسط المناخ نفسه من الارتياح والتفاؤل. للمرة الأولى منذ بداية صراعات لبنان الحديث، يبدو التفاهم المسيحي ــــ المسيحي متكاملاً مع التفاهم الميثاقي بين المسيحيين وكل شركائهم في الوطن. لا نقزة من اتفاق مسيحي ينتج خيارات أحادية طرفية. ولا نزعة مسيحية في اتجاه سياسة «القلعة» المسيحية الموصدة على جماعات الوطن. تماماً كما لا ريبة من حوار سني ــــ شيعي يؤدي إلى إقصاء شريك مسيحي أو درزي، أو غلبة مكونين من مكونات المربع الوطني المتساوية في الجوهر، المتوازنة في روح الميثاق، والمتشاركة في عدالة الحكم والانشداد صوب بناء الدولة. لا أفكار فوق الدولة أو أكبر منها تلغيها، ولا نزعات أصغر من الدولة أو أقل منها، تفككها أو تشلها أو تجعلها مشاريع دويلات محكومة بالاستنزاف والزوال الحتمي. للمرة الأولى تبدو حركة الحوار اللبناني متناغمة بين الجميع، في انسجام طبيعي تلقائي.
والأهم، أن كل ذلك مندرج في سياق إقليمي مؤات. كل الخارج اليوم مساعد على الاتفاق. بين منهمك بكوارثه، وبين متخوف من خسائر آتية، وبين عاجز عن خربطة، وبين حريص على استقرار، وبين متجه إلى أولويات أخرى في أمكنة أخرى… كلهم مساعدون لوفاق لبناني، يبدأ من حوار عون ــــ جعجع. حوار أجهض سنة 2005، لحظة انسحاب الجيش السوري. من دون الخوض في مسؤوليات ومراجعات. ثم فُوّت سنة 2006، لحظة أريد لتفاهم معين أن يكون مفتوحاً على مساحة كل الوطن. حوار يتقدم جدياً اليوم، بخطى مدروسة مكتومة مؤكدة وجدية، صوب تصوّرات شاملة. من الرأس إلى القاعدة. من رئاسة إلى قانون انتخابات. من مفهوم دولة إلى سياقات محيط. ومن سلام شجعان إلى بناء وطن.
أجمل من أن تكون حقيقة واقعة؟! أما قال دوستويفسكي إن الجمال وحده هو ما سينقذ العالم؟! فلنعقد الأصابع.