تشهد الساحة المسيحية حراكاً لافتاً على وقع قرع طبول التفاؤل الرئاسي، لكن في غياب أيّ معطى ملموس حتى الساعة يوحي بإمكان نزول الـ 127 نائباً الى ساحة النجمة لإنتخاب رئيس جمهورية.
ترفض أيّ مؤسّسة مارونية، وضع يدها تحت صخرة الأحزاب المسيحية، خصوصاً أنّ الجميع نفضوا أيديهم من الحوار بين رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع بمجرّد إعلان الرجلين إستعدادهما للحوار. لا أحدَ يتحدّث عن جدول أعمال جدّي، فلا بنود أو أفكار واضحة، وكلّ ما يحصل هو مجرّد فرقعة إعلامية، لا تبشّر بالخير أبداً.
وفي سياق توصيف وضعهم المتراجع، يترحَّم المسيحيون على مؤسّساتهم: قصر فارغ من رئيسه يسكنه خوف مسيحي وهلع من الآتي، إذ تخلّى المسيحيون عن مقولة «شو عم يعملنا الرئيس»، وبات التمسّك بالرمز من أهم إشارات الوجود.
فالجيش الذي يدخل منطقة ويحتلها، يسارع الى رفع علمه، وبالنسبة الى مسيحيّي لبنان وحتى الشرق، فإنّ قصر بعبدا يعني لهم رمزياً، مثلما تعني مكّة والمسجد الأقصى للمسلمين، ومثلما تعني بيت لحم والقدس والفاتيكان للمسيحيين في العالم. ومن دون رئاسة الجمهورية يصبح مسيحيّو لبنان مثل مسيحيّي سوريا والعراق ومصر، مجرَّد كائنات تعمل وتعيش تحت سلطة الحاكم. ولو لم يكن لها هذه الأهمية لما كان هذا الملفّ سيرة جميع الناس.
هذا التراجع المسيحي، ينتج عن تراجع الفعالية. إذ عندما بنى المسيحيون لبنان اللغة والحضارة والفن والرقي والجامعات والمستشفيات، ظهرت بيارقهم في رئاسة الجمهورية، وقيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان والإدارة العامة، أما الآن فبات أقصى طموحهم إنتخاب رئيس «كيفما كان» حتى يؤجلوا تراجعهم «السريري» ستة سنوات إضافية.
أما الكنيسة، فتصرخ وحيدة. صرح بطريركي يواجه معركة الوجود، بطريركٌ يحاول سدّ الفراغ في رئاسة الجمهورية، ليبقى للمسيحيين دور ولا يغيبوا عن المشهد الوطني.
وعلى رغم حديثه عن تمويل خارجي لضرب البطريركية المارونية، وإمتلاكه وثائق سيشكفها في الوقت المناسب، شكل إعلان البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي نيّته إنشاء كرسي على ضفاف نهر العاصي في الهرمل في دير مار مارون، ردّاً سريعاً، إضافة إلى زيارته بتدعي وتصعيده في اتجاه الفلتان الأمني المنشتر بقاعاً.
على صعيد الحركة الخارجية، جاء التحرك الروسي والفرنسي ولو متأخّراً، ليضخّ الحياة في شرايين الإستحقاق الرئاسي، ويمنعه من دخول مرحلة النسيان. فبطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر اليازجي يسعى منذ مدّة مع الروس حتّى يتدخلوا لإستعجال إنتخاب رئيس، وهو لا يوفّر جهداً من أجل ذلك، على إعتبار أنّ روسيا تحمل همّ الوجود المسيحي في منطقة الشرق الأوسط، على رغم أنّ الدول الكبرى تعمل وفق مصالحها وليس وفق مصالح شعوب المنطقة.
ومن جهة ثانية، قرأ البعض الآخر في التحرّك الفرنسي محاولة للحفاظ على ورقة مسيحيّي الشرق في يد «الأم الحنون»، التي عُرفت بعلاقتها التاريخية مع الموارنة. ويُشبّه أحد رجال الدين التسابق الأوروبي- الروسي على ملف الرئاسة مثل التسابق الذي شهدته مرحلة ضعف السلطنة العثمانية، حيث عمدت الدول الكبرى الى التحالف مع أحد الطوائف وحمايتها ليكون لها نفوذ في لبنان والمنطقة، على رغم أنّ الصورة الآن مغايرة.
فالمسيحيون العرب يحاولون حماية انفسهم، بينما فرنسا عاتبة بعض الشيء على موارنة لبنان، لاعتبارها أنهم تخلّوا عن العلاقات الاستراتيجية معها، وبات همّهم التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وايران والسعودية.
وفي انتظار عودة البيارق لترتفع فوق قصر بعبدا، يواصل المسيحيون لعبتهم المفضلة، وهي حب الحياة والعيش والفرح كما جسّدها فنانوهم وعظماؤهم الذين رحلوا أخيراً، حيث زينوا بلداتهم ومدنهم بزينة الميلاد ورأس السنة، وحوّلوا الليل نهاراً في منطقة بات نورها ظلاماً.