بات القلق سمةً لبنانية عامّة تتشارك فيها كلّ المكوّنات، وصار اللبنانيون كأسنان المشط، لا فرق بين لبناني وآخر، إلّا بمقدار ما يعتريه من قلق وخوف وذعر ممّا هو آتٍ عليه في الآتي من الأيام.
للمسلمين أسبابهم، ربطاً بالأزمات والحرائق الإقليمية وارتداداتها على خريطة انتشارهم.
وللمسيحيين أسبابهم، منها ما هو محلّي سياسي مرتبط بموقعهم في الوطن أوّلاً، وكذلك في النظام والدولة لناحية فعالية الدور وحجم الحضور والشراكة في القرار، ومنها ما هو مرتبط بالمدى الذي قد تَبلغه الحرائق الإقليمية والنتائج المدمّرة التي قد تتأتّى منها.
ليس خافياً أنّ أحد أخطر مباعث القلق عند المسلمين على الضفّتين السنّية والشيعية، هو انخراط الطرفين بالكامل في الصراع السعودي – الإيراني، وبأزمات المنطقة وكلّ ما يتفرّع عنها من صدامات وتداعيات وسلبيات، من سوريا إلى العراق إلى اليمن وصولاً إلى البحرين وغيرها من الساحات المشتركة.
بحيث صار مسلِمو لبنان بمعظمهم أسرى هذا الانخراط، وبالتالي متلقِّين حكماً، لنتائجه أيّاً كانت، وليس في مقدور أيّ منهما الحسم ضد الآخر، كما لا يملك أيّ منهما قدرةَ الخروج من هذا الانخراط، حتى ولو كان يَرغب بذلك!
وليس خافياً أيضاً، أمام هذه الصورة الإسلامية القلقة، أنّ قلقَ المسيحيين أكبر، وتعمَّقَ أكثر بعد الهجوم الإرهابي الأخير على بلدة القاع، ولامس بِكَمِّهِ ونوعه وأهدافِه كلَّ الخطوط الحمر.
وتُظهر عملية تشريح لحالِ مسيحيّي لبنان في هذه المرحلة، أنّهم بلغوا مرحلة مرَضيّة بالمعنى السياسي والوجودي، لا تنفَع معها مسكّنات سطحية، بل باتت تتطلّب علاجات موضعية وجذرية سريعة.
والكلام هنا لشخصية مسيحية عتيقة زمنياً عميقة لبنانياً وفاعلة سياسياً، ضمن «قراءة موضوعية للواقع اللبناني ربطاً بتطوّرات المنطقة»، تضع فيها الإصبع على الجرح المسيحي، كما يَرد في الخلاصات الآتية:
– إنّ حصرَ مشكلة المسيحيين بالاعتبار الرئاسي، على أهمّيته الشديدة، ينطوي على تصغيرٍ للمشكلة الحقيقية، لا بل القفز فوقها والتعمية عليها، ذلك أنّ المشكلة أكبر وأعمق.
– المنطقة «تزحَل» من مكانها، وتتحرّك بطريقة تُغيّر في الثوابت والأسس وفي التاريخ والجغرافيا، وحدود «سايكس بيكو»، بالمجموعات الحضارية التي ثبتتها ضمنها، مهدَّدة بالزوال، وأخطر التجليات تبدَّت في عمليات الترحيل الديموغرافي كالتي حصلت مع مسيحيّي العراق وسوريا وشيعة بعض المناطق في العراق والأيزيديين والكلدان والأشوريين وغيرهم من الأقلّيات.
– ليس منطقياً القول إنّ مسيحيّي لبنان يَعتبرون أنّهم في منأى عن تلك التجلّيات، بل العكس، فهم على اختلاف مذاهبهم وتبعاً للمشهد الإقليمي الواضح أمامهم، فإنّ ما يَعتريهم هو قلق وجوديّ مرتبط بالبقاء والمصير.
– بصرف النظر عمّا إذا كان الغرب قد تخلّى في السنوات الأخيرة، أو لم يتخلَّ عن رسالته التاريخية بحماية الوجود المسيحي في الشرق، فإنّ لبنان بات يشكّل آخرَ معلَم للحضور المسيحي في هذه المنطقة، ولا ملاذ آمناً للمسيحيين إلّا في هذا البلد – انظروا ما يحصل في كلّ دوَل العالم من انفلات إرهابي يضرب كلَّ المجتمعات الغربية وغير الغربية – بالتالي فإنّ المسيحيين ثابتون فيه.
– ما يَخشاه المسيحيون هو أن يصِلوا إلى لحظة يذوبون فيها، مع الأقلّيات الأخرى، في عمقِ الديموغرافيا المهاجرة التي تكاد تبتلع لبنان، والمقصود هنا النزوحان الفلسطيني والسوري. والخطير أنّ هذا المدَّ يتراكم يومياً وصار يزيد عن المليونين ونصف مليون، وإن استمرّ مِن دون صدّ أو مواجهة، أو منعٍ، فستكون نهاية المسيحيين في هذا الشرق.
– لقد شخّص الإرهاب في القاع، وقبلها ما أصابَ بعضَ المناطق اللبنانية، واستهدافُ الجيش اللبناني، مكمنَ الخطر الحقيقي على جميع اللبنانيين والمسيحيين في الدرجة الأولى، وهو الإرهاب التكفيري الداعشي العابر للدول والحدود.
أمام كلّ ذلك، هل ثمّة ما يُطمئن المسيحيين، ومن يُطمئنهم؟ وكيف؟
هنا، تُحدّد قراءة الشخصية المسيحية مجموعةً مِن «عناصر الاطمئنان» للمسيحيين كما لسائر اللبنانيين:
أوّلاً، المبادرة إلى مراجعة نقدية لكلّ ما جرى، وإعادة قراءة تفصيلية ومعمّقة للمرحلة الماضية وللسنوات الأخيرة خصوصاً، فالفرصة ما زالت سانحة لتلك المراجعة، وبالتالي استخلاص العبَر ممّا جرى، وإعادة ترتيب الأولويات على هذا الأساس.
ثانياً، هزيمة الإرهاب، وهذا يوجب التحامَ الشركاء في الوطن، لكي تكون هزيمة الإرهاب هي العنوان الأوّل، لا بل الواجب الأوّل. وأمّا طريق الهزيمة فيَرسمها الشعور اللبناني العام بالخطر، وإجراءات فوريّة ببناء جدران حماية وصدّ مِن كلّ المكوّنات، فإن قدِّر للخطر الارهابي التكفيري، أن يتسرّب ويتمدّد، فقد يتغَلغل بيننا، ويجد أسبابَ حياة له في «بيئة النزوحين»، وربّما منطلقاً لِما هو أدهى وأخطر. وهنا الكارثة. ولعلّ أكثر الخطوات الوقائية إلحاحاً في هذه المرحلة، تتجلّى بفرض ضوابط مشدّدة على «النزوحَين» منعاً للتفلّت وأسباب الانفجار.
ثالثاً، على المستوى الداخلي، عدم النظر إلى المسيحيين كمواطنين فئة ثانية، أو كمجرّد أقلّية ضعيفة أو مغلوبة، بل الإقرار فعلاً لا قولاً، بأنّهم مواطنون كاملو المواصفات، ومكوِّن رئيسي، وأحد البناة الأساسيّين لهذا البلد.
رابعاً، الحفاظ على منظومة التعايش التي تَحكم الواقع اللبناني وعدم المسّ بخريطة التوازنات. بالتوازي مع إصلاحات باتت ضرورية تعيد إلى المواقع المسيحية حضورَها الوطني.
خامساً، إعادة صياغة النظام السياسي على أساس عقدٍ اجتماعي جديد يلامس جوهرَ الأزمة ويراعي هواجسَ الجميع، مع إعداد قانون انتخابي جديد يُحدّد مساحة التمثيل والمشاركة لكلّ الأطراف ويمنع الافتئات من طرف على آخر.
سادساً، إنتخاب رئيس جمهورية سريعاً، ولكن أيّاً كان الرئيس الذي سيُنتخَب ومهما كان قوياً، فذلك لن يكون كافياً لتطمينِ المسيحيين، ذلك أنّ الطمأنةَ الحقيقية تكون برسمِ قواعد جديدة للشراكة الحقيقية، وليس الشراكة التي يتمّ التغنّي بها كشعار تبريري لغلبة فئة على فئة.
سابعاً، يمكن إعادة الاعتبار الوطني إلى الحضور المسيحي من دون المسّ بـ»الطائف»، وذلك عبر تأكيد سلامة ووزن التمثيل الحقيقي للمسيحيين، وذلك بإخراج التمثيل النيابي المسيحي من دائرة الارتهان للصوت المسلم بشقَّيه السنّي والشيعي وكذلك الدرزي.
ثامناً، المبادرة، ولو كانت متأخّرة، إلى تقديم «الطائف» كإطار يشكّل حالة جمعٍ وطني بين جميع اللبنانيين، والامتناع عن اعتباره حقّاً مكتسَباً لفئةٍ ممنوعةً مقاربتُه، تعديلاً أو تطويراً.