IMLebanon

المسيحيون لم ينقلبوا على الطائف… المسلمون هم من انقلبوا بالواقعية السياسية

لا يتوقّع كثيرون تحرّر الوضع اللبنانيّ من الجمود إلى الحركة ومن التصحّر في العقل السياسيّ إلى الانسياب، والتحجّر إلى الطراوة. لبنان بطوائفه معلّق على صليب المشرق، والمشرق برمته معلق على صليب الأمم، ولا يشاء أحد في الداخل ابتكار مبادرة تسمح للبنان بتذوّق حلّ جذريّ يقيه تجرّع كأس المنون.

يزيّن لكثيرين أن القضيّة اللبنانيّة ليست لبنانيّة، بل هي قضيّة أمميّة في لبنان كما هي في المشرق العربيّ. لا شكّ أن جزءًا منها هي هكذا، ولكنّ جزءًا كبيرًا منها هي لبنانيّة ومنوطة باللبنانيين، فمتى شاء اللبنانيون الحلّ وجد. المسألة أن عددًا كبيرًا من اللبنانيين مستعذبون لعدم سطوع دولة كاملة، وتكوين الحقيقة اللبنانيّة بتمازجها الفريد بين المسيحيين والمسلمين ضمن مسلمات تسمح بانضباط الإيقاع الطائفيّ والسياسيّ وتقيمه في التوازن.

لقد أوضحنا مسلّمات تتمحور ضمن الفلسفة الميثاقيّة، بعضهم فهمها وبعضهم الآخر لم يفهمها وثمّة في الحقيقة من تعمّد عدم تفهمها. ليست الفلسفة الميثاقيّة شعرًا أو استعادة للتاريخ، هي نشوء متطوّر ومتوثّب بدماء تتجدّد في شريان لبنان بدولة تتزيّن بالكفاءات أو بما كان يقوله المغفور له السفير فؤاد الترك يقودها «الأشرفون والأعرفون»، نحو كلّ خير وبرّ وصلاح.

وفي معرض هذا الحديث، تلقّى كاتب سياسيّ اتصالاً من كاهن فهيم وهو صديق له قال: «يا صديقي هل تعرف ماذا يحيرني في هذا البلد؟ في المناطق التي يعيش فيها المسلمون مع المسيحيين، ترى المسلم السنيّ في رأس بيروت يستحبّ المسيحيّ إلى جانبه، والشيعيّ في بعلبك يستلذّ مجاورة المسيحيّ، والدرزيّ في عاليه كذلك، فترى الإطناب الإسلاميّ بالوجود المسيحيّ على اشدّه، ينهمر أمامك كالمطر، ويبلل الأرض بشذا كلامه، فتظنّ أنّ الشعب اللبنانيّ واحد، ولكن حين يعلو الكلام على حقوق المسيحيين في لبنان من رئاسة الجمهوريّة وصولاً إلى أصغر موقع في الدولة تتغيّر المعادلة، فينكفئ المسلمون بخطابهم فهم لا يشاؤون الاعتراف بحقّ المسيحيّ ضمن دولة قامت على فرادة المساهمة المسيحيّة في تكوينها وتطورها، وهي فرادة مميزة في مشرق عربيّ طابعه إسلاميّ بالكليّة. هذا ما يحيرني يا صديقي ويدفعني الى الألم والحزن».

ما يوطّد ويؤكّد هذا الكلام مداخلة لوزير معتبر بعقله الراجح وثقافته الحصيفة هو رشيد درباس خلال برنامج تلفزيوني، وقد كان إلى جانبه الوزير السابق سليم جريصاتي، فحين سأله جريصاتي عن العلاقة بين السلطة التنفيذيّة والميثاق أو الفلسفة الميثاقيّة، ادّعى الوزير درباس بأنّه لم يفهم هذا المزيج، وروى أنّه في المدرسة كان يحضر درس التعليم الدينيّ وتتلمذ على يد المطران جورج خضر أطال الله بعمره، وكان يستلذّ الدرس على يده لأنّ الحوار كان يعلو بصراحة حول الألوهة وما إليها.

ولكنّ لبنان خرج من النفق المذهبيّ السنيّ – الشيعيّ المحض ليبدو امام مشكلة مسيحيّة – إسلاميّة عنوانها غياب الميثاق اللبناني بعنوانين كبيرين رئاسة الجمهوريّة وقانون النتخابات. والمشكلة أن الفريق الإسلاميّ يتمسرح على الساحة اللبنانيّة برغبة مثقوبة أي رافضة لترسيخ الديموقراطيّة التشاركيّة والميثاقيّة، معلّلا إياها بأنّ يريد تطبيق اتفاق الطائف. ويظنّ هذا الفريق أنّ الفريق المسيحي قد انقلب على هذا الاتفاق، ويسعى، تاليًا، لاستعادة مسيحيّة سياسيّة أو المارونيّة السياسيّة، والتي وجدت في حقبة ما قبل الطائف. وبالعودة إلى الأرشيف يتبيّن وبعيدًا عن أيّ تأويل أو التباس أنّ الفريق الإسلاميّ هو من انقلب على النصّ بالواقعيّة السياسيّة، وقد قال الرئيس رفيق الحريري رحمه الله «أنّ الطائف وجد لنا»، وكان يصرّ خلال الانتخابات النيابيّة على عدم تقسيم بيروت الى دوائر لأنّ التقسيم يوقظ التطرّف المسيحيّ بحسب زعمه، وقد كان يحاول أمام السوريين آنذاك تبيان أنّ السنيّة السياسيّة هي الخادمة للوجود السوريّ في لبنان قبل تطبيق القرار 1559. والبرهان الأخير في ذلك ما أثاره الرئيس السابق للجمهوريّة العماد إميل لحود حول أسباب التوتّر بينه وبين الرئيس الحريري، وتبيّن بفعل ذلك أنّ الرئيس لحود كان حجر عثرة بوجه استئثار السنيّة السياسيّة بالسلطة اللبنانيّة.

وحين سئل الوزير درباس في البرنامج عينه عن دور الرئيس فؤاد السنيورة بالتأثير في الرئيس تمام سلام نفى ذلك، لكنّه في الختام أكّد المؤكّد برفضه المرشّح الذي يمثّل البيئة المسيحيّة أو الوجدان المسيحيّ بأكثريّته المطلقة، ذلك أن السنيورة هو الرافض الأوّل وهو صاحب نظريّة استيلاد المسيحيين في كنف الآخرين، كما يحاول تصوير نفسه الوريث الوحيد لرفيق الحريري في زعامة السنيّة السياسيّة بل الإسلام السياسيّ بحلة ليبرالية مستقبليّة وجعلها قريبة من الغرب بل متحالفة مع الغرب. وفي المحصلة المسيحيون ليسوا المنقلبين على نصّ اتفاق الطائف، بل الإسلام السياسيّ والسنيّة السياسيّة هي من جعلته وليدها، وأظهرته مخلوقًا هجينًا ومجوّفًا لأجلها. المسيحيون في الحقيقة لم يطرحوا بالعمق المؤتمر التاسيسي أو التكوينيّ ولا يزالون حتّى الآن يصرّون على تطبيق اتفاق الطائف. بمعنى أن المسيحيين لم ينقلبوا على اتفاق الطائف ولا ينسى امرؤ أنّ جزءًا كبيرًا منهم وهذا أتى على لسان الرئيس حسين الحسيني ساهموا في تسهيل الاتفاق وتسييله كالبطريرك صفير والدكتور جورج سعادة رئيس حزب الكتائب آنذاك، على الرغم من معرفتهم بأنّ التسهيل جاء على حساب حقوقهم في أحيان كثيرة.

وفي النهاية، إنّ طرائق الحلّ كثيرة، لكنّ الجزء الأكبر من الحلّ يقوم على دور الرئيس نبيه برّي في تعميم التواصل بين الجميع. والتواصل كما يعتقد مصدر سياسيّ أن يقدم على لقاء بينه وبين العماد ميشال عون ينهي كلّ شائبة في العلاقة بينهما ويدفع نحو الحلّ الناجع. فحين يقدم برّي بما ومن يمثّل على هذا اللقاء وبرعاية كريمة من حزب الله، حينئذ نكون أمام مرحلة جديدة تتكوّن من عناصر ضابطة يفهمها الآخرون، ويعملون لها ألف حساب. فاللقاء من شأنه أن يقلب الطاولة على رؤوس كثيرين ويخفّف تاليًا من غلواء بعضهم ويمنح لبنان بعض الطراوة ويقود إلى تحريره من الجمود إلى الحركة، وهذا ما هو مطلوب في هذه الظروف الصعبة والدقيقة التي نمرّ بها ويمرّ بها العالم العربيّ.