هناك انطباعٌ يترسّخ لدى المسيحيين في لبنان بأنهم يفقدون القرار والقدرة على المشاركة تدريجاً. ويقول بعضُهم: «دلّونا إلى مسألة واحدة يُعطي فيها المسيحيون رأيهم ويُؤخذ به»!
يُبدي الرئيس سعد الحريري رأيه في مواصفات رئيس الجمهورية العتيد ويتمسّك بترشيح النائب سليمان فرنجية. ولكن، عندما يحدِّد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله مواصفاتٍ لرئيس الحكومة العتيد، تعلو احتجاجاتُ «المستقبل»: ليس لـ»حزب الله» الحقّ في تحديد مواصفات الموقع السنّي الأوّل في السلطة.
وأساساً، تصدّى نصرالله بقوة للرئيس فؤاد السنيورة عندما رمى للتداول- قصداً أو مناورةً- فكرة أن يكون النائب محمد رعد رئيساً للمجلس النيابي المقبل. فتلك المحاولة للّعب داخل «البيت الشيعي» انطفأت في مهدها. «روح خيِّط بغير هالمسلّة»! ولكن، في ملف رئاسة الجمهورية، يجزم نصرالله بأنّ مرشح «الحزب» لرئاسة الجمهورية هو العماد ميشال عون.
طبعاً، لم يخرج قادةُ المسيحيين ليحتجّوا على التدخّل في «البيت المسيحي»، على غرار ما يفعل المسلمون. فبعض القادة المسيحيين هم مرشحو الرئاسة ويُطربون للدعم الكلامي الذي يتلقّونه هنا وهناك، ولو بقي كلامياً.
إذاً، ممنوعٌ على أحدٍ أن يمسّ بالقرار الشيعي الموحّد في ملف رئاسة المجلس. وفي مستوى أدنى، ممنوعٌ على أحد المسّ بالقرار السنّي شبه الموحّد
في ملف رئاسة الحكومة. لكنّ الشيعة والسنّة معاً يتجاوزون القرار المسيحي في ملف رئاسة الجمهورية.
الشعار المرفوع هو أنّ الموقعَين الشيعي والسنّي يحملان صفة ميثاقية، ولذلك لا يجوز أن تختار طائفة ممثلَ طائفة أخرى. ولكن، عندما يتعلّق الأمر بالموقع الميثاقي المسيحي، أي رئاسة الجمهورية، يُرفَع شعارٌ مطّاط هو أنّ «الرئيس أبٌ للجميع ويجب أن يكون توافقياً بين الفئات كافة».
في هذا المعنى، واقعياً، هناك فارقٌ في درجة التمثيل الميثاقي: الشيعة مرتاحون، السنّة وضْعُهم مقبول، أما المسيحيون ففي وضع سيّئ. ومن البديهي أن يكون رئيسا المجلس والحكومة ممثّلين لطائفتيهما أكثر بكثير ممّا هو رئيس الجمهورية. وإمعاناً في ذلك، أبقى «إتفاق الطائف» البابَ مفتوحاً لشغور موقع الرئاسة بحيث تكون الحكومة وريثة لها إلى أجل غير مسمى، فيما موقع رئيس المجلس مكفول ورئيس الحكومة يبقى في موقعه يصرِّف الأعمال مهما تأخَّر تأليف حكومة جديدة.
ونموذج الخلل الميثاقي في موقع الرئاسة يترجِم خللاً شاملاً على مختلف مستويات النظام والسلطة ومؤسساتها. فأمن الدولة مستهدَف لأنه موقع مسيحي، ولو كان لطائفة أُخرى مثلاً هل كان يجرؤ أحد على المسِّ به؟
والمواقع المسيحية الأولى في الإدارات، باستثناء قيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان، عرضة لضغوط مستمرة. والنماذج كثيرة في الوزارات والإدارات والمرافق العامة. ومن السخرية أنّ صفقات الفساد لم تعد تشمل المسيحيين غالباً، لا لأنّ مستوى النظافة عندهم أعلى، بل لأنّ الأقوياء هم الذين يتوزّعون الجبنة عادة ولا يتركون للآخرين إلّذا الفتات.
وهذا الخلل ناتج عن تعقيدات متراكمة بدأت مع الظروف والتوازنات التي رافقت ولادة «الطائف» عام 1989 واستمرت في مرحلة الوجود العسكري السوري وعُقبها. فالقوى التي استثمرت العداء بين سوريا الأسد والمسيحيين لإضعافهم ووراثة دورهم، تبدو أكثر تشبّثاً بالمكاسب التي حققتها على حسابهم.
وما زالت القوى إياها- المسلمة – تسعى إلى قانون انتخاب يأتي بنواب المسيحيين في «البوسطات» التي تقودها. وسيبقى القادة المسيحيون في الانتظار العبثي لقانون انتخاب مناسب. والخلل في التمثيل النيابي هو الذي يستولد الخللَ التمثيلي في موقع رئاسة الجمهورية وفي تطبيق الدستور
والتشريع والتمثيل في الحكومة وسوى ذلك.
في فترات سابقة، كان اللومُ يُلقى على الوصاية السورية. ولكن تبيّن أنّ الأمر «ليس دقيقاً». فالخلل الميثاقي، بعد 11 عاماً من خروج سوريا العسكري، بات أكثر شراسة. فأين هي ملفات صلاحيات رئيس الجمهورية والجنسية والمغتربين وقانون الانتخاب العادل مثلاً؟
كما تبيّن أنّ مراهنة المسيحيين جميعاً على تصحيح الخلل تحت راية «14 آذار»، في مطلع «انتفاضة الاستقلال»، لم تكن في محلِّها. فقد غلبت «الأنانيات» الشخصانية والفئوية على غالبية جماعات «14 آذار»، بكلّ تلاوينها، وأطاحت «المشروع».
واليوم، لا فاعلية لمواقف القادة المسيحيين، إجمالاً، قبولاً أو اعتراضاً. فكلمتهم غير مسموعة في الحكومة، سواء شاركوا فيها أو خرجوا منها. ولا أحد يأخذ بآرائهم، سواء شاركوا في الحوار أو قاطعوه. وإذ ينزل بعضهم إلى الشارع في ملف النفايات، فإنه يبدو وحيداً، وتتعاطى السلطة معه باستضعاف واضح وبسلوك يدعم الانطباع بأنّ مكب برج حمود سيبقى وحده العامل بعد التعطيل الهادئ لـ»الكوستا برافا».
والمثير هو أنّ قادة المسيحيين يلتزمون في هذه الفترة أكبر مقدار من الصمت، ما يطرح أسئلة عن السبب:
هل وصل هؤلاء إلى اليأس من المطالبة واقتنعوا باستحالة الوصول إلى نتائج في المطلق، أم إنّ هذا الصمت يترجم فترة الانتظار التي ستأتي بالتحوّلات السياسية بعد تبلور المعطيات الإقليمية، والتي في ضوئها يتقرّر مصير البلد بكلّ مكوِّناته؟
أيّاً يكن الجواب، فإنّ في الأوساط المسيحية مَن يحمِّل غالبية القادة المسيحيين أنفسهم مسؤوليةً عن وقوع الخلل. والنموذج الأبرز هو ملف الشغور الرئاسي المستمر منذ أكثر من عامين. فلو أجمع المسيحيون، بمَن فيهم المرشحون، على مرشح واحد يمثّلهم جميعاً، ويحظى بتأييد القوى السياسية والروحية كافة، لكانوا فرضوا الانتخابات الرئاسية على الجميع وبدأت الهوّة تتقلّص في كلّ المواقع تباعاً.
يعتقد المتفائلون أنّ مستقبل المسيحيين في لبنان سيكون مضموناً، كما سائر المجموعات، لأنّ القوى الدولية والإقليمية الراعية للاستقرار لن تدع لبنان يسقط ولن تترك فيه خللاً يؤسس للمأزق مجدّداً. وهذه النظرة المتفائلة ليست بعيدة عن الواقع. وعلى رغم كلّ شيء، يبقى الأميركيون والفرنسيون والفاتيكان والمجموعة الخليجية ومصر مهتمون بمنع سقوط لبنان، والحفاظ على دور المسيحيين وسائر المكوّنات فيه.
ولكن، على المسيحيين أن يحافظوا على جهوزية تتيح لهم الإفادة من أيّ ظرف إقليمي- دولي مناسب لضمان مصيرهم الآمن واستقرارهم لسنوات وسنوات آتية سيتغيّر فيها الشرق الأوسط بكامله. فهل المسيحيون جاهزون لتحمّل المسؤوليات الكبرى التي تفرضها عليهم تحوّلات المنطقة؟
إنّ تعاطي معظم القادة اللبنانيين، بمَن فيهم المسيحيون، مع التحوُّل الاستراتيجي الأهمّ في لبنان خلال العقد الفائت، أي خروج سوريا العسكري، لا يشجع على التفاؤل في أنهم مستعدون للتعاطي المناسب مع التحوّلات الناتجة عن «الربيع العربي».
إذا كان هذا الخوفُ في محلِّه، يتراجع منسوبُ التفاؤل، ويصبح مشروعاً الكلام على الخطر الذي يتعرض له لبنان… والمسيحيون فيه!