IMLebanon

مسيحيّو لبنان أمام أسئلة مصيرية

أكثر من أي وقتٍ مضى، يبدو مستقبل الكيان اللبناني مرتبطاً بتطوّرات الإقليم، والحرب الدائرة في سوريا والعراق على وجه الخصوص.

فالسياق العراقي منذ سقوط بغداد في نيسان 2003 تحت الاحتلال الأميركي، وقيام تنظيم «داعش» الإرهابي وبدء انحساره التدريجي الحالي، مروراً بفشل النظام الهشّ الذي نشأ مع الاحتلال، أوصل العراق إلى تعذّر قيام الدولة المركزية القوية، وأفرز ثلاثة أشباه أقاليم محدّدة المعالم والحدود، والتكوين.

لم يكن قدّ مرّ على الانسحاب الأميركي من العراق أكثر من ثلاثة أشهر، حتى دخلت سوريا في حربها الطاحنة، ليبدأ نظام «الأقلمة» بعد خمس سنوات من الحرب برسم بُعده السوري؛ فأفرزت الإرادات الدولية وسياق الحرب على «داعش» و«الارهاب»، حتى الآن، كياناً كردياً لا يزال يتخبّط ليرسّم حدوده بالدم، مع دعوات أميركية وغربية، بعضها علني، لقيام كيان سنّي، يحفّز على قيام أقاليم أو محميّات لـ«الأقليات»، ويجرّ معه تفكّكاً شبه كامل للدولة السورية المركزية لحساب دولة «لامركزية» ضعيفة، تدير مجموعةً من الأقاليم المذهبية والعرقية.

سياق ما بعد الحرب الأهلية لم يكن أقلّ كلفة على الدور المسيحي من الحرب

وإذا كان الاقتناع بأن سوريا والعراق اللذين نعرفهما لن يكونا سوريا والعراق في المستقبل، فهل باستطاعة لبنان أن يحافظ على شكله الحالي وصيغته السياسية التي قام عليها اتفاق الطائف، بعد تبدّل خارطة النفوذ والتوازنات الإقليمية والدولية منذ ذلك الحين؟

لم يعد سرّاً القول إن اتفاق الطائف (أو الترجمة التي اعتمدها الرئيس الراحل رفيق الحريري للاتفاق وتطبيقه له) بات صيغة ناقصة، لا تؤمّن الاستمرار بالكيان اللبناني في ظلّ التحوّلات المحيطة، ولو أن غالبية الفرقاء السياسيين يعلنون ليل نهار تمسّكهم بالاتفاق في العلن، وينتظرون مراسم دفنه في السر. وبمعزلٍ عن السجال الدائر في البلاد حول الميثاقية وأزمة الشراكة بين المسلمين والمسيحيين، والشغور الرئاسي الذي يحرم المسيحيين من آخر رموز تمثيلهم في السلطة، فإن تسارع الأحداث في الإقليم، وبروز تفاهمات دولية «عريضة»، يضعان لبنان، والمسيحيين تحديداً، أمام الأسئلة المصيرية، مع تنامي شعور الغبن، وتحوّل لبنان إلى آخر حصن للمسيحيين في المشرق.

بالنسبة إلى مجموعة من النخب المسيحية البارزة، التي تدور في فلك التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، فإن سياق ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية لم يكن أقلّ كلفة على الدور المسيحي في لبنان من سياق الحرب ذاتها. ولدى هؤلاء عشرات الأمثلة عن التهميش و«مصادرة الخيارات المسيحية» من 1990 حتى 2016، في وقت «تستفحل الفئات الأخرى في القبض على نظام المحاصصة اللبناني». لكن في العمق، تقتنع تلك النخب بأن التفاهمات الدولية، وتحديداً بين الأميركيين والروس، تلحظ مسألة «حقوق الأقليات وتمثيلها»، كجزء أساسي من تركيبة النظام الإقليمي الجديد. وبحسب أحد هؤلاء، فإن التفاهم الروسي ــــ الأميركي أفضى إلى ثلاثة عناوين عريضة: أوّلاً، التفاهم على الشراكة في النفوذ داخل الإقليم، ثانياً الاتفاق على إدارة الحرب، وثالثاً مراعاة حقوق الأقليات ودورها في أنظمة ما بعد الحرب، ضمن حلّ كامل يوصل لسلامٍ دائمٍ مع إسرائيل. وفي وقت يثق فيه بعضهم بأن «لا أجندات دولية واضحة في لبنان»، يقتنع الآخرون بأن «لبنان هو المساحة الوحيدة الباقية للمسيحيين في الشرق»، وهي نظرة فاتيكانية، «لا تترك دوائر الفاتيكان فرصةً إلّا وتعبّر عنها بشكل دائم». ويضيف المصدر، إن «ما تبقى من النظام اللبناني الحالي، وعدم رغبة الأفرقاء الآخرين أو قدرة بعضهم كحزب الله على ضمان الدور المسيحي السياسي في لبنان، يدفع القوى المسيحية إلى كسر (التابو) في البحث عن أي صيغة تضمن دورهم السياسي ووجودهم، حتى لو كانت فدرالية». ولا يُنكر المصدر أن هذا البحث يضعه المسيحيون على الطاولة، و«يسمعه الغربيون في أحاديثنا معهم برحابة صدر»، في حين «لا يجد السفراء العرب في لبنان ما ينتقدونه من الأداء والخطاب المسيحيين، في ظلّ ما يحصل في لبنان والإقليم، بعد أن كانت هذه الطروحات محرّمة في الماضي». ويخلص مصدر آخر إلى القول إن «المسيحيين حريصون على الشراكة، وقَبِلنا بالطائف لسنوات مع أنه مجحف، حفاظاً على لبنان، لكنّنا لن نسكت بعد اليوم على التهميش، وإن تهدّد وجود لبنان ككيان بحدّ ذاته، ومن الغباء أن نضيّع الفرص الإقليمية والدولية لضمان حقوقنا ولا نستغلّها».