لا يمكن عزل العمل الإرهابي في طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني، ليلة احتفال المسلمين في لبنان وفي تلك المدينة بعيد الفطر، عن الظروف العامة التي يمرّ بها البلد. فجأة ظهر «داعش» على شكل شاب سنّي من اهل المدينة يعتبر من أصحاب السوابق واعتدى على رجال امن لبنانيين ينتمون الى سلكي قوى الامن والجيش وقتل أربعة من هؤلاء.
لم يكن سقوط أربعة شهداء من الجيش وقوى الامن من باب الصدفة في مرحلة تتعرّض فيها مؤسسات الدولة اللبنانية لكلّ أنواع الهجمات بما في ذلك السعي الى اسقاط الحكومة التي يرئسها سعد الحريري… مع ما يعنيه ذلك من انقلاب على التسوية التي جاءت بميشال عون رئيسا للجمهورية في الواحد والثلاثين من تشرين الاوّل – أكتوبر 2016.
هناك بكلّ بساطة جو عام مختلف في لبنان. لا يمتّ هذا الجوّ باي صلة للتسوية الرئاسية التي يبدو ان هناك تنصلا منها، لدى فريق معيّن. انّه تنصّل على كل المستويات وصولا الى كلام رئيس «التيّار الوطني الحر» عن «تفاهمات» وليس عن تسوية.
يعني مثل هذا الكلام عن «تفاهمات» ان الفضل الوحيد في انتخاب ميشال عون رئيسا هو لـ»حزب الله» وانّ كلّ ما فعله الآخرون، من الذين ايّدوما ظنّوه تسوية، هو الخضوع لارادة «حزب الله» الذي صار يتحكّم بالقرار اللبناني. اكثر من ذلك، بات مطلوبا شنّ الحملة تلو الأخرى على الشركاء الآخرين في الوطن، على رأسهم اهل السنّة بغية استعادة ما يسمّى «حقوق المسيحيين».
لعلّ اخطر ما في الامر ان هناك جهلا في الأسباب التي ادّت الى اتفاق الطائف والتوصل الى الدستور الحالي الذي يحتاج من دون شكّ الى تعديلات ولكن ليس لجهة إعادة سلطات الرئيس الجمهورية الى ما كانت عليه حتّى العام 1989. هناك حاجة اكثر من أي وقت الى توضيح دور رئيس الوزراء من جهة بدل ان يكون كلّ وزير في الحكومة فاتحا على حسابه من جهة أخرى. امّا رئيس الجمهورية، فيظلّ الحارس الأمين على الدستور ونقطة توازن والتقاء بين جميع اللبنانيين والضامن لتطبيق الدستور وليس مطالبا بحقوق المسيحيين في وقت هناك ميليشيا مسلّحة مذهبية في البلد على استعداد لجعل لبنان مجرّد ورقة في تصرّف ايران.
لا يظهر «داعش» في لبنان او سوريا او العراق الّا عندما تكون هناك حاجة اليه لا اكثر. ظهر في سوريا، حين كان النظام، الداخل في حرب مع شعبه، في حاجة الى توجيه رسالة الى العالم فحواها انّه يقاتل الإرهاب. كان لا بدّ من صنع الإرهاب وخلقه بكلّ الوسائل الممكنة، بما في ذلك اخراج إرهابيين معروفين من السجون وخلق «داعش» من اجل تحقيق مآرب معيّنة، ان في سوريا او في العراق او لبنان.
كان مهمّا الكلام الذي صدر عن نائب بيروت نهاد المشنوق قبل ايّام قليلة، من ظهور «داعش» في طرابلس. كان الكلام الذي قيل من دار الفتوى في بيروت تحذيريا. كان تذكيرا بانّ الهجمة على اهل السنّة لا بدّ ان تتوقف بعدما اخذت مداها، خصوصا بعد كلام جبران باسيل عن انّ «السنيّة السياسية جاءت على جثّة المارونية السياسية وسلبت كلّ حقوقها ومكتسباتها ونحن نريد استعادتها منهم بشكل كامل». هل كان وقف الملاحقات القضائية للمقدّم في قوى الامن الداخلي سوزان الحاج في قضيّة الاعتداء الموصوف على المسرحي زياد عيتاني خطوة على طريق استعادة الحقوق المسيحية؟ كان الهدف من ذلك كلّه واضحا كلّ الوضوح. كان الهدف التعريض بقوى الامن الداخلي عموما وشعبة المعلومات على وجه الخصوص، بصفة كونها مؤسسة لبنانية تعمل من اجل جميع اللبنانيين بعيدا عن ايّ هدف سياسي باستثناء خدمة لبنان. لعبت شعبة المعلومات دورا أساسيا في كشف ان الاتهامات التي أوقف بموجبها زياد عيتاني، بتهمة التعامل مع إسرائيل، لم تكن تلك سوى تقارير ملفّقة. كان إيقافه وتعذيبه من اجل النيل من اهل السنّة واهل بيروت على وجه التحديد. كلّ ما فعله نهاد المشنوق صبّ في وضع حدّ للتمادي في الاستخفاف باهل السنّة وتأكيد انّهم على علم بما يحاك لهم في الوقت ذاته وشعورهم بخطر على «السلم السياسي» في البلد.
لا يشبه ظهور «داعشي» في طرابلس واقدامه على ما اقدم عليه سوى ظهور شاكر العبسي في مخيّم نهر البارد في ايّار – مايو من العام 2007. خاض الجيش اللبناني معركة استمرت 105 ايّام للانتهاء من ظاهرة «فتح الإسلام» التي كان على رأسها العبسي الذي انتقل بقدرة قادر من السجون السورية الى مخيّم نهر البارد غير البعيد عن طرابلس.
سيكون هناك من يحاول استغلال ظهور «داعشي» في طرابلس الى ابعد حدود. سيكون التركيز، مرّة أخرى، على انّ الإرهاب مرتبط باهل السنّة في لبنان. لا بدّ من تدجينهم على غرار ما حصل مع الدروز حيث يواجه زعيم الطائفة وليد جنبلاط حملة شرسة، ما زالت مستمرّة، تستهدف سياسيا لبنانيا رفض ان يكون أداة للنظام السوري او لإيران.
لا مفرّ من تكرار، ما سبق وقيل عن انّ الحقوق المسيحية في لبنان لا تستعاد بسلاح «حزب الله». هذا سلاح في خدمة ايران ومشروعها التوسّعي في المنطقة ولا علاقة له من قريب او بعيد بحقوق المسيحيين او بمصلحة لبنان. كلّ ما في الامر ان هناك محاولات اعتداء على اهل السنّة في لبنان بحجة انّهم سلبوا المسيحيين حقوقهم. هذا الاعتداء لا يستهدف سوى اثارة الغرائز لدى المسيحيين الذين يعتقدون انّ كلّ حقوقهم سلبت في اتفاق الطائف. ليست المشكلة في اتفاق الطائف بمقدار ما انهّا في العجز لدى قسم من المسيحيين عن استيعاب الواقع المتمثل في انّ ظهور «داعشي» في طرابلس لا يشبه غير ظهور شاكر العبسي في مخيّم نهر البارد حيث سقط للجيش 168 شهيدا. هل نسي اللبنانيون من كان وراء شاكر العبسي؟ هل نسوا ان الأمين العام لـ»حزب الله» حسن نصرالله قال وقتذاك ان مخيّم نهر البارد «خط احمر». كان يعني بذلك انّه كان مطلوبا ان يتحول المخيّم الفلسطيني الاهمّ في شمال لبنان الى بؤرة للارهاب كي يسهل في كلّ وقت توجيه أصابع الاتهام الى اهل السنّة ومتابعة الحملة عليهم.
من الضروري بين حين وآخر التفكير في الخروج من عقدة اهل السنّة والنظر الى الامور كما هي. هناك تنظيم «داعش» السنّي وهناك «دواعش» شيعية. من واجبات من يريد الوصول الى موقع رئيس الجمهورية عدم التفريق بين «داعش» السنّي و»داعش» الشيعي. الأكيد ان مثل هذا التفريق، الذي لا بد من ان تتبعه خطوات عملية، لا يخدم لبنان ولا يخدم المسيحيين، فضلا عن انّه لا ينمّ عن أي معرفة لا بلبنان ولا بشؤون المنطقة ككلّ!